Author

المكاتب الاستشارية .. أين الخلل؟

|
تجمع الاستشاريون السعوديون تحت مظلة مجلس الغرف السعودية، لمناقشة همومهم ورسم مستقبلهم، بدعوة كريمة من مجلس الغرف ممثلا في اللجنة الوطنية للمكاتب الاستشارية, وكان الاجتماع رائعاً بصفة العموم, خاصة بشاشة الزملاء أعضاء اللجنة وأريحيتهم في النقاش وتقبل الرأي الآخر, إضافة إلى حسن الاستقبال من منسوبي المجلس. ركز الملتقى على ثلاثة جوانب رئيسة, أولها: «استراتيجية اللجنة الوطنية للمكاتب الاستشارية» لدعم وتطوير المكاتب الاستشارية وقطاع الاستشارات, الثاني: «نظام شركات المهن الحرة», الذي صدر عام 1412هـ وتعمل به شركات ومكاتب الاستشارات بموجب تراخيص تصدرها إدارة المهن الحرة في وزارة التجارة والصناعة, الثالث: «واقع المنافسة في قطاع الاستشارات الوطنية». ولي مع الملتقى وبعد الثناء عليه عدة وقفات مهمة, أوجزها فيما يلي: 1 ـ تشكيلة اللجنة: اللجنة غير واضحة الملامح, فهي تضم تحت لوائها المستشارين الماليين والاقتصاديين والإداريين, إضافة إلى المهندسين, ولا أعتقد أن بإمكانها أن تستبعد أي مكتب استشاري آخر ما دام مرخصاً من وزارة التجارة, بمعنى أن اللجنة ستضم المستشارين التربويين والمستشارين الصحيين والمستشارين الإعلاميين ومستشاريي الأمن والسلامة, وغير ذلك كثير, بالله عليكم ما الهموم المشتركة التي يمكن الإجماع عليها بين هذا الطيف المختلف إلى حد التنافر؟ 2 ـ المرجعية: عندما نتحدث عن الصناعيين فمرجعهم إلى وزارة التجارة والصناعة, وعندما نتحدث عن البنوك وشركات التأمين فمرجعيتها إلى مؤسسة النقد, والشركات الاستثمارية ترجع إلى هيئة سوق المال, أما المقاولون فمرجعيتهم إلى وزارة الشؤون البلدية .. وهكذا، لكن في حالتنا هذه فمرجعية أعضاء اللجنة والمنتسبين إليها غير واضحة, فالمرخصون كمهن حرة يشرف عليهم وزارة التجارة والصناعة, والمحاسبون القانونيون مرجعيتهم إلى الهيئة السعودية للمحاسبين, وشركات المشورة والترتيب مرجعيتها إلى هيئة سوق المال، والمهندسون مرجعيتهم إلى الهيئة السعودية للمهندسين, ومستشارو التأمين مرجعيتهم إلى مؤسسة النقد, وكل من هذه المرجعيات رأس يصعب الاتصال به، فكيف بالتنسيق والتفاوض معه، بل كيف يمكن التحقق من الرقابة على الأداء، وكيف يمكن الاتفاق على المواقف المشتركة .. إلخ. 3 ـ الخطة الاستراتيجية: وجود الخطة مهم والمجهود الذي بذل في وضعها واضح ومحل تقدير, لكن تعدد الجهات الاستشارية التي ترعى اللجنة مصالحها سيشتت الأهداف, خاصة أن هذا التنوع الفريد في هذه الجهات سيزيد عدد الجهات ذات العلاقة, وقد اتضحت المشكلة الأهم في الخطة عندما ورد سؤال حول الموارد المالية المطلوبة للتنفيذ, وقف وقتها رئيس اللجنة والأعضاء موقفاً لا يحسدون عليه يستجدون الأعضاء للتبرع للجنة! كان من الواضح أن هناك مشكلة في تأمين الموارد اللازمة لتنفيذ الخطة، والأسوأ من ذلك أن الميزانية المطلوبة للتنفيذ غير محددة. 4 ـ المنافسة غير العادلة: كان هناك إجماع بين الحضور على الدور السلبي الذي تلعبه الجهات الاستشارية الأجنبية، وأشار الحضور صراحةً وتلميحاً إلى التراخيص التي تصدرها الهيئة العامة للاستثمار لبعض المستثمرين الأجانب بحجة تقديم الخدمات التجارية وحقيقتها تقديم الخدمات الاستشارية, بعيداً كل البعد عن ضوابط المهنة ومتطلبات الوزارة، ما يخلق منافسةً غير عادلة داخل القطاع. 5 ـ حصة الشركات الوطنية من السوق: كانت نتيجة الدراسة السوقية التي قدمت في الملتقى صاعقة على الحضور بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى, فقد خلصت إلى أن المكاتب الاستشارية المحلية تتنازع على 5 في المائة من «كعكة» الاستشارات المحلية, بمعنى آخر فإن كل الستة آلاف مكتب المرخصة من قبل وزارة التجارة تركض وراء فتات الكعكة, بينما هربت الشركات الأجنبية بحصة الأسد وهي 85 في المائة, علماً أن المتعاقدين مع هذه الشركات في معظمهم جهات حكومية أو شركات عملاقة تملك الحكومة النسبة العظمى من أسهمها! 6 ـ أسباب الضعف: أحال الملتقى ضعف تنافسية قطاع الاستشارات الوطني إلى (التشريعات المعوقة وضعف القدرات المالية للجان التطويرية للقطاع وضعف مستوى الكفاءات البشرية والاعتماد على الإسناد الخارجي وعدم مشاركة القطاع بالرأي عند اتخاذ قرارات تخصه وعدم الاهتمام ببناء قواعد معلومات، إضافة إلى عدم الاستفادة من شركات التسويق لتسويق خدمات القطاع والاستفادة من الدعم الممنوح من جهات الدعم) وفي نظري أن هذا التشخيص يركز على مظاهر المشكلة وليس على جوهرها, حيث إن المشكلة تكمن في أمرين الأول: التعامل مع الآخرين وينطبق عليها المثل «إن زامر الحي لا يطرب», أما الآخر: فهو أن القطاع لم يساعد نفسه حتى يساعده الآخرون, فمستوى كثير من المكاتب الاستشارية, إن لم يكن معظمها, محل تساؤل من حيث المهنية والجودة ومستوى العاملين, وما زال كثير من الممارسين يفكرون بأيهما نبدأ بالبيضة أم الدجاجة؟ فهل يتم الصرف على تحسين المستوى أولاً أم يتم ذلك بعد الحصول على العقود؟ وحتى يتم الاختيار فنحن محلك راوح, ناهيك عن التشتت والعمومية في كثير من المكاتب فهي تقدم قائمة «منيو» فيها كل ما لذ وطاب من الخدمات الاستشارية حيث تمارس التخطيط الاستراتيجي والتنظيم والتوظيف وتقنية المعلومات وتأسيس الشركات ودراسات الجدوى .. إلخ، في حين لا يزيد عدد المستشارين لديها على أصابع اليد الواحدة، نصفهم يعمل على أساس الدوام الجزئي! 7 ـ الدعوة إلى الاندماج: أوصى الملتقى المكاتب الاستشارية بالاندماج والتكتل لمواجهة المنافسة الأجنبية, وهي استراتيجية محورية ليس لمواجهة المنافس الأجنبي فقط, لكنها ـ في نظري ـ السبيل الوحيد للبقاء, مع الأسف ما يعوق مثل هذه الخطوة واقع سوق الاستشارات الذي تسيطر عليه الفردية وثقافة الأنا, إضافة إلى كثير من السلبيات المحيطة بالمهنة وأهمها نظام الشركات المهنية, الذي يؤكد استراتيجية النفس القصير في الشركات المهنية بانتهائها بوفاة أحد الشركاء وعدم إمكانية التوريث للحصص. 8 ـ تمويل أنشطة اللجنة: كما هي سياسة مجلس الغرف لا توجد أي مخصصات مالية للصرف على اللجان, ويكتفي المجلس بتوفير المدير التنفيذي (غير المتفرغ) للجان, إضافة إلى استضافة اجتماعاتها ولقاءاتها, وهو سياسة واضحة وموحدة للمجلس للتعامل مع جميع اللجان, وهو جهد مشكور من المجلس, ويبقى دور اللجنة وأعضائها والمنتسبين إليها في ترتيب التمويل اللازم لأعمالها, ولتغطية هذا الجانب أوصى الملتقى بإنشاء صندوق مالي يتم تمويله عن طريق المكاتب الاستشارية الوطنية بهدف تمويل أنشطة اللجنة وتنفيذ الاستراتيجية, إضافة إلى عديد من الخطط والبرامج والأنشطة البحثية خلال خمس سنوات, وفي رأيي, أن اللجنة لن تجمع ريالاً واحدا من الأعضاء ليس لبخلهم أو عدم قناعتهم لكن لسببين رئيسيين, الأول: ضعف ذات اليد لقطاع المكاتب الاستشارات الوطنية, الآخر: التشكيلة المتنوعة لتخصصات المكاتب الاستشارية فلن يدفع الممارسون إلا لما يحقق مصلحة وأهداف مهنتهم, وأعتقد أن اللجنة التي تضم الاستشاريين ممن يعطون الرأي والمشورة والحكمة لقطاع الأعمال يجب أن يكون لهم وسائلهم وأدواتهم لتمويل أنشطة اللجنة بما يحقق أهدافها ما داموا مقتنعين بها! ختاماً .. من يصدق أن هناك ما يقارب ستة آلاف منشأة تقدم خدماتها الاستشارية في مجتمع الأعمال في السعودية؟ صحيح أنها تمثل أطيافا متعددة من ممارسي الخدمات الاستشارية, كما أنها تمثل المكاتب الفردية والشركات المهنية, لكن تخيلوا معي (وعندما أقول تخيلوا فمعنى ذلك أن الواقع مخالف له!) أن هذه المكاتب تعمل بمهنية عالية وجودة مرتفعة وديناميكية متفاعلة مع مجتمع الأعمال، لو تم ذلك حقاً فأنا أجزم بأن حال قطاعات الأعمال وليس الاستشارات فقط مختلف عن واقعها اليوم! رأيي هذا ليس تشفياً في مكاتبنا المحلية, كما أنه لا يمثل نظرة سوداوية للقطاع، فأنا أحد العاملين تحت لوائه والمنتسبين إليه, وأنا هنا لا أعمم, لكنها الصورة العامة للأغلبية, وهي دعوة صريحة إلى إعادة النظر في واقع خدماتنا الاستشارية من جميع الجوانب, القانونية, السوق والمنافسة, الجودة والمهنية, الوطنية, الرقابة على الأداء, أكاد أجزم أن تغيير الواقع قد يكون صعباً, لكنه ليس مستحيلاً, ولنتذكر أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم, فلنبدأ بأنفسنا.
إنشرها