Author

أستخيرك بعلمك

|
أنت أمام منعطف طرق يحتم عليك اتخاذ قرار حاسم. المعطيات غير واضحة تماما، المعلومات ليست كافية، المتغيرات كثيرة، ولكن نتائج القرار خطيرة وطويلة المدى، زواج، تخصص، مشروع، سيارة ... إنها قرارات مهمة، والتردد يأخذك يمنة ويسرة، والوقت يضغط عليك. موقف يتكرر في حياة كل منا. فن اتخاذ القرار من أهم المهارات الإدارية التي يحتاج إليها الإنسان في حياته العامة والخاصة، وهو علم وفن يدرس، وله طرقه ومناهجه وأساليبه. أهم ما يستند إليه هو جمع معلومات أكثر دقة عن البدائل المتاحة، فكلما كان لديك تصور صحيح وشامل عن الثوابت والمتغيرات المؤثرة في هذه البدائل، كان قرارك أقرب إلى الصواب. ولكن الإنسان مهما بلغت قدراته العقلية وخبراته العملية محصور ضمن حدود الزمان والمكان، لا يستطيع أن يحس بما حوله إلا بواسطة حواسه ومدركاته، وهناك كثير من المتغيرات الكونية والاجتماعية لا يحس بها ولكنها تؤثر بشكل مباشر أو غير مباشر في عواقب قراراته. هو أقرب ما يكون بسجين في زنزانة صغيرة ليس فيها سوى نافذة صغيرة تصله بالعالم الخارجي. وحتى إن استطاع الإنسان أن يحصل على جميع المعلومات والحقائق فإن تفسيره لها خاضع لتصوره العقلي المبني على خبراته السابقة وذكائه الذهني وحالته النفسية. كم مرة ندم الإنسان على قرار اتخذه لأنه لم تكن لديه معلومة معينة لو كانت عنده لغيرت قراره، أو لأنه فهم معلومة معينة خطأ أو لم يدرك أبعادها الحقيقية، أو كان في حالة نفسية معينة منعته من إدراكها على حقيقتها. وحتى لو استطاع الإنسان أن يجمع جميع الحقائق والمعلومات، ثم يفهمها بطريقة صحيحة ودقيقة لا تؤثر فيها الحالة النفسية ولا الخبرة السابقة، فإن المتغيرات نفسها تتبدل من وقت لوقت ومن مكان لآخر. فكم بنى الإنسان قرارا على معطيات معينة تبين بعد حين أنها تغيرت فكانت نتائج القرار وخيمة. وقد اندفع الناس في اتجاهات شتى لردم هذه الفجوة ومحاولة تحسين قدرتهم على اتخاذ القرار، فذهب أناس إلى العرافين والمشعوذين وقراء الكف والفنجان، وذهب آخرون إلى التحليل الرياضي واستخدام الكمبيوتر في تحليل البدائل وحساب الاحتمالات، واستسلم نفر ثالث إلى الحظ والمصادفة. غير أن في يد المسلم أداة فاعلة مهمة كثيرا ما يغفل عنها. إنها الاستخارة. هي استعانة بالله الذي بيده كل شيء، والذي أحاط بعلمه الأكوان، إنها اعتراف بعلمه الشامل وقدرته المطلقة، إنها فتح لجميع النوافذ وكل الآفاق الممكنة. والاستخارة في حقيقتها ليست هروبا من اتخاذ القرار ولا تثبيطا للعقل أو الاجتهاد، فإن حديث الاستخارة يبدأ بـ : "إذا هم أحدكم بالأمر ..." فتدل هذه العبارة من الحديث على أن على العبد أولا أن يبذل كل الأسباب العلمية والعملية للوصول للقرار، فيجمع المعلومات الموثقة، ويستشير أهل الرأي والخبرة ويعمل عقله وذهنه قدر استطاعته، ثم يختار أحد البدائل بناء على اجتهاده ويهم به، ولكن قبل تنفيذه يلجأ إلى الاستخارة كخطوة نهائية يلتمس بها معونة الله. كما أن الحديث يشير بإبداع إلى ثلاثة عناصر في اتخاذ القرار "خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري" منبها على ضرورة دراسة ومعرفة النتائج المتوقعة لأي قرار من حيث أثره على الدين وعلى الحياة وعلى المستقبل. لا بد أن أعرف وأدرس وأتأمل وأسأل عن أثر هذا القرار الخطير المهم على ديني، وأثره على حياتي، ثم أخصص نقطة إضافية مستقلة عن أثره علي في المستقبل، حيث إن غالب القرارات الحساسة المهمة لها آثار بعيدة المدى أكثر مما كان الإنسان يتصور. فإذا كان الأمر خيرا بهذه المعايير الثلاثة، وانشرح صدرك له بعد الاستخارة فهو كذلك بإذن الله وتدعو الله: أن "يقدره لك، وييسره لك، ويبارك لك فيه". وإذا كان شرا بهذه المعايير الثلاثة فهو الشر الذي تدعو الله أن "يصرفه عنك، ويصرفك عنه، ويقدر لك خيرا منه، ثم يرضيك به". لن تتخذ القرار الصحيح في كل مرة، ولكنك إذا اجتهدت وجمعت المعلومات، وتأملت البدائل، واستشرت أهل الخبرة، وبعد ذلك استخرت الله الذي يعلم كل شيء ويقدر على كل شيء، فقد عملت ما عليك، فلينشرح صدرك، وليطمئن قلبك، لأن اختيار الله لك، هو قطعا خير من اختيارك لنفسك، لأنه أرحم بك، وأعلم.
إنشرها