Author

الإنفاق الحكومي.. ضرورة أم ترف؟

|
لم يعد الإنفاق الحكومي، إحدى أدوات المالية العامة، يرتكز على حجم الإنفاق فقط، وتحديد أولوياته، بل تعدى ذلك ليصبح أحد الأدوات المهمة لعلاج الاختلالات الهيكلية، حيث أخذ مكانته كأداة من ضمن أدوات أخرى منسجماً معها ولا يَضادها، زد على ذلك الاهتمام بنوعية النفقات والأهداف المطلوب تحقيقها ضمن الأولويات المرسومة بغض النظر عن الحسابات القيمية. لا شك أن النمو الاقتصادي مطلب كل دولة لما يتركه من أثر إيجابي على الدخول، وبالتالي الإنفاق العام والخاص بجميع أوجهه وقنواته. هذا النمو لا يتحقق إلا من خلال تضافر جهود القطاعين العام والخاص بالرغم من تحفظات الاقتصاديين على تأثيرات الإنفاق الحكومي السلبي على القطاع الخاص، لما للقطاع الخاص من ديناميكية تُعرض نموه الاقتصادي للفتور. من جانب آخر، نجد أن الإنفاق الحكومي إذا وجُه الوجهة المدروسة فسيعطي النتائج المرجوة، فلو ذهب جزء من الإنفاق إلى ذوي الدخول المنخفضة، فبالتأكيد سيكون له أثر إيجابي في الاقتصاد الوطني ككل لما لهذه الفئة من معدلات استهلاك عالية، مقارنة بأصحاب الدخول المرتفعة. ومعدلات الإنفاق العالية في المجتمعات ذات الدخول المرتفعة سيكون لها أكبر الأثر في الاقتصاد الوطني مما لو كان المجتمع دخله منخفض، ما يرفع وتيرة الاقتراض الحكومي، ومن ثم المردود السلبي على الاقتصاد الوطني بأكمله. المُلاحظ أن تأثير الإنفاق الحكومي إيجابيٌ في حالة انغلاق الاقتصاد المحلي، حيث لا تسربات خارجية على شكل واردات، بينما قد تكون هذه الحالة إيجابية في اقتصاد مفتوح، وجل وارداته للأغراض التنموية من آلات ومعدات ومواد خام وقطع غيار، وهذا ما نلمسه اليوم. بيد أن توجيه الإنفاق قد يكون على أغراض إنتاجية تعليمية وصحية وبنية تحتية أساسية لها المردود الإيجابي خلاف الإنفاق الاستهلاكي الترفيهي. واقع البلدان النامية بعامة يُظهر أن جُل إنفاقها الحكومي يذهب على المصروفات الجارية وغالبيتها رواتب ونفقات حكومية متنوعة يغلب عليها الطابع التفاخري، ما يعني أن التحفيز الإنفاقي الذي تتبناه هذه الدول لتنشيط الاقتصاد الوطني سيكون في حدوده الدنيا، خاصةً أن الاقتصادات النامية في عموميتها ذات دخول منخفضة ومفتوحة على العالم الخارجي، وعليه فإن الاقتراض من الداخل قد لا يكون بالصورة المأمولة إذا زاحم القطاع الخاص من خلال رفع معدلات الفائدة، ومن ثم التأثير السلبي على الإنتاج. وحتى نكون أكثر واقعية، فإن الدول النامية بعامة تعتمد بعد الله على ما تنفقه الحكومات من دخول تحصل عليها من أجل تحقيق رفاهية المواطنين قدر الإمكان والإمكانات. وليس من غريب الصدفة ألا يكون هناك تجانس في وجهة الإنفاق، فقد يذهب جزء منه إلى مناطق إنتاجية والجزء الآخر إلى الترفيه. ففي حالة ضعف القاعدة الإنتاجية وضعف القطاع الخاص وعزوفه عن الاستثمار، إما بسبب قلة الخبرة والتجربة أو لعدم توافر السيولة الكافية كون بعض المشروعات التنموية تتطلب استثمارات عالية لا يستطيع القطاع الخاص توفيرها، فلا بد والحال هذه من تدخل الدولة بالإنفاق وتوجيه الموارد الاقتصادية، ولعل المثال القائم هو تجربة المملكة في هذا المضمار وصعودها من بلد شبه معدوم البنية الأساسية مع ضعف كبير في القاعدة الإنتاجية، إلى بلد حديث ومتقدم، مقارنة بغيرها. وبالرغم من تهيؤ الظروف الحالية وبالأخص المادية منها للدولة وقدرتها على الصرف على جميع القطاعات الاقتصادية، ومنها التعليم بجميع مستوياته، حيث يُعد هذا الإنفاق مقياسا لجهود الدولة وقدرتها على النهوض بهذا القطاع، إلا أنها لم تكتف بذلك، بل أخذت على عاتقها النصيب الأكبر من أجل تثبيت البناء التنموي، فعلى سبيل المثال ارتفع حجم الإنفاق على تنمية الموارد البشرية وركيزتها التعليم والتدريب من 276.9 مليار ريال في خطة التنمية السابعة إلى أعلى بقليل من 347.6 مليار ريال في خطة التنمية الثامنة، وفي إشارة واضحة إلى تصاعد وتيرة الإنفاق الحكومي على تنمية القطاع البشري، خاصةً في المجالات التعليمية والتدريبية. هذه دلالة واضحة على إيجابية الإنفاق الحكومي وأهميته في هذه المرحلة الحاسمة من مراحل التنمية، وبذلك تكون خطط التنمية تعبيرا حقيقيا عن حجم الإنفاق الحكومي التنموي الفعلي. بطبيعة الحال قطاع النفط سيكون مُحفزا للتنمية خارج بلدنا إذا كان الهدف من الاستيراد الخارجي الاستهلاك الترفيهي، وليس الإنتاجي، فعلى سبيل المثال لا الحصر الإنفاق على الناتج المحلي الإجمالي حسب الأسعار الجارية، ففي سنة 2005 كانت نسبة الإنفاق الاستهلاكي إلى إجمالي الناتج المحلي في حدود 50 في المائة، بينما هي لإجمالي تكوين رأس المال الثابت في حدود 16 في المائة لذات العام، شاملةً أكثر من 2 في المائه للتكوين الرأسمالي للقطاع النفطي، وهذه الأرقام تعكس ضخامة حجم الإنفاق الاستهلاكي، مقارنة بالإنفاق الاستثماري في الأصول الرأسمالية الثابتة اللازمة للتنمية المُستدامة. من المهم في هذا المقام توجيه الإنفاق الحكومي بما يحقق تنويع القاعدة الإنتاجية، حيث الاهتمام بمشاريع البنية الأساسية التحتية من طرق، مواصلات، اتصالات، تعليم، وصحة كفيل بتحقيق الأهداف بما فيها خفض تكاليف الإنتاج، مع تكييف أنفسنا على التنفيذ الدقيق، حسب المبالغ المُخصصة مع التركيز على منع الهدر والتبذير المالي بجميع صوره وأشكاله التفاخرية.
إنشرها