Author

درس من المملكة .. الحصافة المالية وصرامة التشريعات المالية

|
لم تكن الانهيارات التي شهدتها الأسواق العالمية خلال الأسبوع الماضي إلا دليل على المخاطر المتعاظمة التي يواجهها الاقتصاد العالمي جراء أزمة المديونية العامة في أوروبا. وفي هذا درس مهم، وهو أن ما كان يعتقد أنه دين خالي المخاطر لا يعني بالتأكيد الخلو التام من المخاطر، فالحكومات شأنها شأن المؤسسات الخاصة لها طاقة مالية لا تستطيع تجاوزها إلا إذا أرهقت نفسها وأرهقت مواطنيها وأدت بالتالي إلى تراجع إنتاجية اقتصاداتها. النظرة السابقة كانت أن الديون السيادية لا تفلس، أو على الأقل احتمال إفلاسها قليل جداً، لكن التاريخ يزخر بالتجارب التي أدت إلى إفلاسات على مستوى الدول, منها أزمة روسيا في نهاية التسعينيات من القرن الماضي. وما حدث الأسبوع الماضي يدل أيضاً على أن الحكومات مثلها مثل المؤسسات المالية، إفلاسها ربما يؤدي إلى تأثير متعاظم في الأسواق المالية, وهو أكبر من تأثير إفلاسات المؤسسات المالية. إفلاس الحكومات يؤدي إلى تعاظم تكلفة الديون السيادية في الدول التي تعد المرجع الأساسي لتسعير الديون، وبالتالي ارتفاعات كبيرة في أسعار الفائدة. هذا بالطبع يؤدي إلى تراجع كبير في الاستثمارات وركود اقتصادي ربما يطول مداه. والطريق لمعالجة الوضع سيكون بسياسة تقشف شديدة لإعادة الأمور إلى نصابها, وهي ما تفاقم من أثر هذا الركود وتزيد من البطالة, وربما تؤدي إلى إثارة جماعات الضغط والمعارضة, وربما تهدد استقرار الدولة. ما حدث إذاً يؤكد أهمية (الحصافة المالية) لصانع القرار الاقتصادي، وألا يكون هذا القرار أسيراً لمهاترات السياسيين الذي يرغبون في إعادة انتخابهم, بالتالي يقومون بالتوسع في الإنفاق من خلال زيادة الأجور وزيادة المنافع التقاعدية وتحميل ميزانية الدولة كثيرا مما قد لا تحتمله في المستقبل. ما حدث سيجعل كثيرين يعيدون النظر في السياسيين الذين يستخدمون هذه الطريقة في الترويج لأنفسهم, لأن جحيمها في النهاية سيصب على رؤوسهم في شكل ضرائب عالية وركود اقتصادي وبطالة وظروف اقتصادية صعبة. الناس بالتأكيد سيعيدون حساباتهم وسيكون وضع الاتحادات العمالية أيضاً صعباً, إذ عليها أن تدافع عن نفسها حيث تتهم بأنها سبب رئيس في تضخم الأجور مثلاً في اليونان والمحرك الرئيس لحركة المعارضة الدموية لسياسة التقشف التي تبنتها الحكومة. هناك أيضاً مراجعة لتشريعات الأسواق المالية التي جعلها كثير من السياسيين هدفاً لحملاتهم لمواجهة الأزمة المالية, فهناك حملة تشن في كل من الولايات المتحدة التي أقر الكونجرس فيها حزمة إصلاح تتكون من خمسة عناصر رئيسة، وهناك حملة في كل من فرنسا وبريطانيا وألمانيا وكثير من الدول الأخرى. بالطبع هناك دور رئيس لضعف التشريعات في الأسواق المالية في حدوث الأزمة، وكان ذلك من خلال تأثير حملات الضغط التي مارستها المؤسسات المالية خلال السنوات السابقة لتخفيف هذه التشريعات وجعلها أكثر مرونة, وكان آخرها إلغاء قانون ستيجال الذي يفصل نشاط المؤسسات المالية التجارية عن النشاطات التجارية, وهو ما أسهم في توسع كبير في أنشطة مؤسسات الودائع في الأنشطة الاستثمارية مع تمتعها بالضمانات نفسها. في الولايات المتحدة يعمل المشرعون على دمج مسودتي قانون, إحداهما أقرها الكونجرس والأخرى أقرها مجلس الشيوخ, لتكون المسودة جاهزة للتوقيع من قبل الرئيس أوباما في 4 تموز (يوليو) 2010. وأهم ما تضمنته مسودة القانون الجديد هو تأسيس وكالة لحماية المستهلكين يكون لها الحق في التدخل في حالة انتهاك حقوق المستهلكين سواءً في قروض الإسكان أو بطاقات الائتمان، ووضع المشتقات المالية في بيوت للتسوية Clearing Houses لضمان عدم تراكم الالتزامات على أطراف العملية ما يهدد النظام المالي في حالة عدم إمكانية السداد، وسلطة للتسوية عبر الحدود لمنع انتقال تأثير إفلاس المؤسسات المالية إلى النظام ككل، وتشريع خاص بالمؤسسات المالية ذات الحجم المؤثر، وأخيراً قاعدة فولكر التي ستعيد العمل بقانون ستيجال الذي يفصل بين البنوك التجارية والاستثمارية. وفي أوروبا هناك تشريعات صارمة تتعلق بمكافآت المديرين التنفيذيين في المؤسسات المالية، وتشريعات لصناديق التحوط، وأخرى تتعلق بالبيع بالأجل، والمشتقات المالية، وضريبة المؤسسات المالية، وكثير من التشريعات التي ستؤدي إلى تغيير شكل النظام المالي العالمي. الأهم ألا تكون هذه التشريعات رد فعل فقط على ما خلفته الأزمة المالية, وأن تكون لها قيمة مضافة تتمثل في الحد من تحمل المخاطر الزائد من قبل الممارسين في المؤسسات المالية بهدف الإثراء السريع على حساب دافعي الضرائب. لكن في الوقت نفسه، يجب ألا تؤدي تلك التشريعات إلى الحد من إمكانات النمو الاقتصادي من خلال تقييد الائتمان بشكل كبير. الخلاصة, أن هناك قضيتين مهمتين تواجههما الدول المتقدمة بكل صرامة, هما قضية تسوية أوضاع المالية العامة المتردية بسبب سوء الإدارة من قبل الحكومات المتعاقبة، وقضية التشريعات المالية الضعيفة التي أدت إلى التوسع الكبير في تحمل المخاطر من المؤسسات المالية الغربية, ما أدى إلى حدوث الأزمة. والمملكة في هذا الوقت تعطي درساً في الحصافة المالية ومتانة التشريعات المالية التي تحكم المؤسسات المالية في المملكة لدول العالم، وتثبت صحة رؤيتها، حيث أسهمت هذه السياسة في الحد من تأثر المملكة بشكل كبير من الأزمة الاقتصادية العالمية.
إنشرها