Author

تفاقم أزمة الديون السيادية وتأثيرها في دول المنطقة

|
إن الاقتصاد العالمي الذي أخذ يعود تدريجياً إلى التعافي قبل تفاقم أزمة اليونان، أصبح الآن مهدداً بأزمة جديدة هي أزمة الديون الحكومية. فإجراءات التقشف التي فرضت على عدد من دول منطقة اليورو لن تسمح بعودة سريعة للنمو قبل سنوات عدة قادمة، مع ما لذلك من تأثير في أسعار الصرف الرئيسية وأسعار الفائدة وأسعار النفط والمعادن والسلع وأداء أسواق الأسهم والسندات العالمية والإقليمية. فخطة الإنقاذ المقترحة من قبل الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي لا تتعدى كونها حلاً لسد الفجوة التمويلية الحالية ولا تتطرق لمعالجة المشكلات الجذرية التي تواجهها اليونان وبعض الدول الأوروبية الأخرى من ضعف في الإنتاجية وفي قدراتها التنافسية وفي ارتفاع معدلات البطالة والمديونية. فالخطة تركز في المرحلة الأولى على توفير المساعدة لليونان لخدمة ديونها للأعوام القليلة القادمة، في حين أن ما تحتاج إليه اليونان هو إسقاط جزء من هذه الديون المستحقة أو إعادة هيكلتها على فترة زمنية أطول وهذا من شأنه أن يعزز استقرارمنطقة اليورو ويقلص من عوامل عدم اليقين. غير أن مثل هذه الحلول الهيكلية هي من الأمور المحظور تطبيقها في الوحدة النقدية الأوروبية. لا بد للدول العربية من أن تتأثر بأزمة ديون اليونان، فأسعار النفط وأسعار صرف عملات دول المنطقة المرتبطة معظمها بالدولار، والتجارة مع أوروبا والتي تشكل نحو ثلث واردات دول المنطقة، بالإضافة إلى أسواق الأسهم والسندات المحلية التي كغيرها من الأسواق الناشئة، ستتأثر دون شك بالتطورات الناتجة عن الأزمة اليونانية. وإذا ما انتشرت هذه الأزمة إلى دول أوروبية أخرى مثل إسبانيا والبرتغال وإيرلندا وإيطاليا، عندها سيكون حجم المشكلة أكبر وسيكون تأثيرها أوضح في دول المنطقة. من أهم عوامل عدم اليقين الناتجة عن الأزمة في اليونان حدوث تراجع مطرد في أسعار النفط ما سيكون له تأثير مباشر في إيرادات النفط والنفقات الحكومية وتأثير غير مباشر في أسواق الأسهم وثقة المستثمرين. ولقد تراوحت أسعار النفط بين 70 دولارا و 85 دولارا للبرميل خلال الأشهر الخمسة الأولى من هذا العام، ونتوقع أن يكون المعدل السنوي في حدود 65 دولارا للبرميل لعام 2010، مقارنة بـمعدل 61 دولارا للبرميل عام 2009 و 100 دولار للبرميل عام 2008. والمعدل المتوقع هو أعلى من السعر المفترض للبرميل في ميزانيات دول مجلس التعاون لهذا العام التي راوحت بين 45 دولارا للسعودية و55 دولارا للإمارات. غير أنه إذا ما هبطت أسعار النفط إلى ما دون 60 دولارا للبرميل في المعدل، فإن الوضع الاقتصادي والمالي ككل سيتأثر. ويجدر بالذكر أن ميزانيات بعض دول المنطقة أظهرت عجزاً العام الماضي مع أن معدل سعر برميل النفط كان في حدود 61 دولارا، مقارنة بتحقيق فائض في الميزانية عام 2003،عندما كان سعر برميل النفط عند 30 دولارا في المعدل. هذا دليل على أن دول المنطقة وضعت موضع التنفيذ سياسات مالية معاكسة للدورة الاقتصادية counter cyclical، أي سياسات محفزة عندما يتراجع النشاط الاقتصادي وأخرى متشددة عندما تظهر الضغوط التضخمية، أضف إلى ذلك أن دول المنطقة أصبحت اليوم تعتمد أكثر على القطاع العام ليكون المحفز الرئيسي للنشاط الاقتصادي. هذه العودة الدراماتيكية للحكومات والتي أصبح مطلوبا منها أن تلعب دوراً أكبرعلى الساحة الاقتصادية، تزيد من اعتماد دول المنطقة على الإيرادات النفطية وتجعلها أكثر تأثراً بالتغيرات المستجدة في أسعار النفط. العامل الآخر الناتج عن أزمة اليونان هو ارتفاع سعر صرف الدولار والعملات العربية المرتبطة به مقابل اليورو، إذ يتداول الدولار الآن عند نحو 1.23 دولار لليورو والتوقعات بأن يتراجع اليورو إلى أقل من ذلك خلال الأسابيع أو الأشهر القادمة. فالاقتصاد الأمريكي يشهد بداية دورة نمو اقتصادي قوية ستؤدي إلى عودة أسعار الفائدة على الدولار للارتفاع مع بداية العام المقبل مقارنة بنمو بطيء في أوروبا يتطلب الإبقاء على اسعار الفائدة على اليورو عند معدلاتها المالية المنخفضة. وقد يصل اليورو إلى مستوى دولار واحد إذا انتقلت الأزمة لتشمل دولا أوربية أخرى. فمثل هذه التطورات إذا ما حدثت ستنعكس سلبيا على دول شمال إفريقيا بما فيها مصر و إيجاباً على دول المنطقة الأخرى التي ترتبط عملاتها بالدولار، سواء من ناحية تقليص الضغوطات التضخمية المستوردة من الخارج، أو لكون مثل هذه التطورات تساعد على جذب المزيد من التدفقات الرأسمالية إما بشكل ودائع مصرفية أو استثمارات موجهة إلى أسواق الأسهم والسندات الإقليمية. ويتوقع أن ينعكس التراجع في الأسواق المالية العالمية بسبب الأزمة في اليونان سلباً على أسواقنا المحلية ويقلص من التحسن المتوقع هذا العام. لقد لاحظنا أخيراً كيف أن موجات الارتفاع أو الهبوط في أسعار الأسهم تبدأ في الأسواق المتقدمة وتنتقل تباعاً بين أمريكا وأوروبا وآسيا وصولاً إلى منطقتنا. فالتحركات في أسعار الأسهم المحلية أصبحت تعكس بشكل متزايد حركة الأسواق الخارجية إلى الحد الذي بات معه المساهمون يتابعون مؤشرات الأسهم العالمية وأسعار النفط لاتخاذ القرارات المحلية متجاهلين في كثير من الحالات المعطيات الخاصة بأداء الشركات المدرجة في أسواق دول المنطقة. ولقد أصبح المستثمرون أكثر تنبهاً بعد أزمة اليونان للتنامي السريع في حجم الديون السيادية للدول وفي إسراف الحكومات في الاستدانة والإنفاق لتحقيق معدلات تفوق طاقتها. ومع أن نسبة الدين إلى إجمالي الناتج المحلي لمعظم الدول العربية (ما عدا لبنان ودبي) ما زالت عند مستويات معقولة، إلا أن الأسواق أخذت تراقب الطريقة التي تداربها المالية العامة. فإذا كانت القروض لتمويل عجز الميزانية تصرف لأغراض استهلاكية ونفقات عسكرية وإدارية، فهذا يعتبر معلقا ومؤشرا على تفاقم المديونية مستقبلا، غيرأنه إذا كانت القروض تصرف على مشاريع ترفع من الإنتاجية ومن قدرة الاقتصاد على المنافسة، فإن الوضع سيكون مطمئنا من ناحية قدرة الدولة على خدمة ديونها وإعادة تمويلها عند الاستحقاق. ويجب التنبه أيضا إلى نسبة التضخم في البلاد خاصة تلك الناتجة عن ضخ المزيد من السيولة لتمويل العجز في الميزانية. فالتضخم يزيد من قيمة الناتج المحلي ويكبر من حجم الاقتصاد بالأسعار الجارية، فتتراجع بذلك نسبة المديونية إلى هذا الناتج وهو المعيار الذي يراقبه المستثمرون لتحديد حجم الدين الملائم للدولة. ومثل هذا يعتبر تحسناً وهميا لأنه يؤدي إلى تفاقم المشكلة مستقبلا. كما أن الاعتماد على الدين الداخلي ليس بالضرورة أفضل من الاعتماد على الدين الخارجي والذي عادة ما تكون تكلفته أقل ويؤدي إلى تدفقات نقدية جديدة من الخارج، كما يمكن إعادة جدولته عند الحاجة أو الطلب من المقرضين إسقاط جزء منه، في حين أن الدين الداخلي يبقى ملزما على الأفراد والمؤسسات وعند إعادة جدولته يكون له تأثير سلبي كبير على الجهاز المصرفي المحلي. كما أن المشكلات التي تواجهها منطقة اليورو قد تؤثر في إطلاق العملة الخليجية الموحدة. فالاتحاد النقدي المدعوم بوجود بنك مركزي أوروبي وعملة موحدة هي اليورو شكلت الأساس لنموذج العملة الموحدة بين دول الخليج. كما أن القائمين على الوحدة النقدية استفادوا كثيراً من الدعم الفني الذي قدمه البنك المركزي الأوروبي ووضعوا موضع التنفيذ برنامجا محددا للوصول إلى العملة الموحدة شبيها بالذي تم تطبيقه في دول المجموعة الأوروبية التي اختارت اليورو. والمشكلة التي تواجها اليونان اليوم تشير إلى ضرورة تحقيق تنسيق أكبر بين الاقتصادات قبل الانضمام إلى الاتحاد النقدي عن طريق قيام مشاريع بنية أساسية مشتركة، ونجاح الاتحاد الجمركي بين الأعضاء، والتأكد من أن أرقام الدين العام وإجمالي الناتج المحلي هي أرقام موثوقة وتحسب بطريقة متطابقة بين الدول الأعضاء. وقد تكون إحدى الدروس المكتسبة من هذه الأزمة ضرورة وجود نوع من الاتحاد الاقتصادي أي تقارب أكبر في السياسات المالية والاقتصادية للدول الأعضاء في الاتحاد النقدي لتكون بذلك مكملةً للسياسات النقدية وليس على نقيض لها. وقد ينتهي المطاف بأن ُيسمح للدول الأعضاء في الوحدة النقدية بالتحقق كل بمفرده وبشكل دقيق ومقنع بأن الدول الأعضاء الأخرى تتبع سياسات مالية سليمة، على أن تكون هناك حوافز مالية واقتصادية للذين ينجحون في إبقاء عجز الميزانية والدين العام كنسبة من إجمالي الناتج المحلي ضمن الحدود المتفق عليها، وفرض عقوبات على الذين يفشلون في ذلك، بما فيها طردهم من الوحدة النقدية عند الضرورة. إن التغيرات التي تشهدها منطقة اليورو اليوم هي إحدى ظواهر الوضع الطبيعي الجديد للاقتصاد العالمي أو ما يسمى New Normal. فالدول الغنية تحولت إلى دول مقترضة، والدول الصاعدة أصبحت هي الدول المُقرضة، والدول التي تأثرت أقل من غيرها بالأزمة المالية العالمية، مثل الصين والهند والبرازيل وكوريا وجنوب إفريقيا وغيرها، يتوقع أن تشهد معدلات نمو مرتفعة تقدر بنحو 6.5 في المائة في المعدل هذا العام، مقارنة بنمو متوقع لمنطقة اليورو لا يزيد على 1 في المائة و 3 في المائة لأمريكا. كذلك ارتفعت حصة الإنفاق الاستهلاكي لمجموعة الدول الصاعدة من 23 في المائة من إجمالي الإنفاق العالمي في عام 2002 إلى نحو 35 في المائة في عام 2009، في حين تراجعت حصة الولايات المتحدة من 36 في المائة إلى 28 في المائة خلال هذه الفترة. ولقد برزت القوة السياسية للدول النامية كما حدث أخيرا عندما قامت البرازيل وتركيا بمحاولة لإبعاد خطر العقوبات الاقتصادية عن إيران. وسيشجع الفرق في معدلات النمو والاستهلاك للدول الصاعدة مقارنة بمنطقة الاتحاد الأوروبي وأمريكا إلى جذب المزيد من رؤوس الأموال للاستثمار في أسواق هذه الدول. وهذا سيؤدي إلى تفاقم أسعار الأصول هناك من عقارات وأسهم ومواد خام، إضافة إلى ارتفاع أسعار صرف عملات هذه الدول (على سبيل المثال ارتفع الريال البرازيلي بنسبة 40 في المائة مقابل الدولار منذ بداية آذار (مارس) 2009)، وهذا بدوره سيجذب المزيد من أموال المضاربة لتضيف إلى الضغوط التضخمية في أسواق هذه الدول. فمن جهة أصبح الاقتصاد العالمي مهددا بأن يشهد معدلات نمو ضعيفة في الدول المتقدمة، ومن جهة أخرى ستشهد الدول الصاعدة ظهور فقاعات جديدة في أسعار الأصول لديها. وهناك تفاقم إذا في مخاطر الدول المتقدمة وتحسن في مخاطر الدول النامية، غير أن الأسواق ما زالت تضع أسعار اقتراض ومعدلات تأمين على القروض CDS أعلى للدول النامية منها لبعض الدول الأوروبية التي تواجه صعوبة في خدمة ديونها، لذلك سيجد الذين يتحولون لتركيز استثماراتهم على أسواق الدول الصاعدة أنهم أكثر المستفيدين خلال السنوات القليلة المقبلة.
إنشرها