Author

كيف طورت اليابان منظومة أمنها الغذائي؟

|
بداية، أود الإشارة إلى أن اليابان بلد مزدحم جداً، يقطنه نحو 120 مليون نسمة يتوزعون على أربع جزر رئيسة لا تتعدى مساحتها مجتمعة سدس أراضي المملكة، 70 في المائة منها مناطق جبلية عرضة للزلازل والبراكين طوال العام، فيكف تمكنت اليابان من توفير الأمن الغذائي النسبي لمواطنيها؟ الإجابة عن هذا السؤال تستوجب العودة إلى سبعينيات القرن الماضي، فما إن تعافت اليابان من أزمة النفط الأولى في 1973م، حتى وجدت نفسها تستورد النسبة العظمى من احتياجات شعبها الغذائية من مصادر خارجية غير مستقرة عرضة لتقلبات الأسواق العالمية، وخصوصاً في إمدادات السلع الاستراتيجية مثل القمح حسب الجدول التالي: عندها، اعتمدت الحكومة اليابانية – بالتعاون مع قطاع الأعمال – السياسات الاقتصادية التالية: - تطوير تقنيات زراعية لرفع إنتاجية الهكتار الواحد عشرة أضعاف مثيله في الخارج. - دعم الصناعات الغذائية المحلية و ترشيد سلاسل الإمدادات المعولمة. - تحفيز الشركات على الاستثمار في تطوير مشاريع زراعية حول العالم. أي مراجعة سريعة لتقارير أكبر عشر شركات يابانية مثل متسوبيشي ومتسوي وماربيني توضح حرصها على المساهمة في توفير الأمن الغذائي الياباني مستفيدة من التمويل الحكومي وضمان الاستثمارات الخارجية الذي تقدمه الحكومة اليابانية عبر صندوق التعاون الاقتصادي لما وراء البحار Overseas Economic Cooperation Fund-OECF. وعادة ما تأخذ هذه الشركات المبادرة وتتولى إدارة المشروع خلال مسار الاستثمار الزراعي الطويل، بدءا من دراسة الجدوى الاقتصادية ومروراً بتنظيم الأطراف المشاركة في تطويره من مكاتب هندسية وشركات مقاولات بنية تحتية وموردي تقنيات ومعدات زراعية، وانتهاءً بتوفير خدمات التأمين والشحن والتخزين في مناطق صناعية بالقرب من الموانئ اليابانية. في عام 1976م، طورت شركة ماروبيني أول استثمار زراعي خارج اليابان لإنتاج القمح وفول الصويا على مساحة 20 ألف هكتار تبعد ألف كيلو متر شرق العاصمة البرازيلية، ضمن مسعى اليابان لتوفير مصادر مستقرة وطويلة المدى لاحتياجاتها الغذائية وشحنها إلى الموانئ اليابانية مثل كوبيه. وبالتزامن مع هذا المشروع، أنشأت شركة متسوي مجمع كونان للمنتجات الغذائية في المنطقة الصناعية المحاذية لميناء كوبيه على مساحة 23 ألف متر مربع، وذلك لتفريغ وتغليف وتوزيع الكميات الضخمة من القمح وفول الصويا واللحوم والمنتجات البحرية وغيرها من المواد إلى جميع أرجاء اليابان من جزيرة هوكايدو في الشمال إلى أوكيناوا أقصى الجنوب. بعد ختام جولة في مجمع كونان، شاهدت مئات الشاحنات تصطف أمام المنشأة لتنطلق في تمام الساعة الرابعة فجراً حاملة المواد الغذائية إلى تجار التجزئة المنتشرين في جميع الجزر اليابانية، ليتم توزيعها على المطاعم والمحال الصغيرة قبل أن تبدأ ربات البيوت رحلة التسوق اليومية.هذه المنظومة المتكاملة من المزرعة سواء كانت في البرازيل أو تايلاند أو دول أخرى إلى المائدة في طوكيو أو أوساكا أو مدن وقرى اليابان الأخرى، لم تسهم فقط في توفير الأمن الغذائي، بل أيضاً عملت على تعزيز الفاعلية وجودة الغذاء واستقرار الأسعار، بمنأى عن تقلبات العرض والطلب التي تسود الأسواق العالمية، بما في ذلك السعودية. وفي رأيي، أنه على الرغم من اختلاف بيئة الجزر اليابانية الجبلية المزدحمة بالسكان عن صحاري المملكة الشاسعة الشحيحة المياه، إلا أن البلدين يتشابهان في الحاجة إلى توفير الأمن الغذائي النسبي عبر الاستثمار الزراعي في بلاد أخرى وترشيد نظام الإمدادات الغذائية. ضمن برنامج الأمن الغذائي السعودي، أطلقت الحكومة مبادرة الاستثمار الزراعي الخارجي في عام 2008م بداية بدراسة الفرص المتاحة وتوقيع اتفاقيات مع عدد من الدول مثل السودان ومصر وإثيوبيا، حيث تتوافر الأراضي الصالحة والمياه مع قلة تكلفة الإنتاج والشحن إلى الموانئ السعودية. وختاماً، إن توافر مقومات النجاح لبرنامج الأمن الغذائي السعودي يجب ألا يقف حاجزاً أمام الاستفادة من تجارب اليابان الناجحة في تطوير منظومة الأمن الغذائي النسبي من خلال تحفيز قطاع الأعمال على الاستثمار الزراعي في بلاد مستقرة سياسياً - ذات مزايا تفضيلية - وترشيد سلسلة الإمدادات الغذائية المعولمة، إضافة إلى تكثيف الحملات الإعلامية التي تحد من الإسراف.. إذا كان لنا أن نجنّب مواطنينا أي أزمات غذاء وتقلبات أسعار مستقبلية.
إنشرها