Author

صناعة السياحة بين الأولوية الوطنية والدعم المفقود

|
تعتمد السياحة في جميع دول العالم على التميز الثقافي والجغرافي ونوعية الخدمات والأنشطة المقدمة، ولذا يكون من الخطأ وسوء الفهم اختزال السياحة في نمط موحد والاعتقاد على سبيل المثال أن المناخ اللطيف والمناظر الخلابة وحدها كفيلة بإنجاح المشروع السياحي. هذا التفكير الخاطئ يقف سدا منيعا وعقبة كؤودا أمام تطوير السياحة الوطنية في السعودية ويخلق حاجزا نفسيا لدى جميع مكونات المجتمع ومؤسساته الرسمية وغير الرسمية، وبالتالي يصد عن استيعاب فكرة نجاحها وعدم تطبيق الاستراتيجية الوطنية للسياحة بحماس وجدية والتزام. الإشكالية أن عدم تفعيل الاستراتيجية الوطنية للسياحة ودعم تنفيذها ليس فقط يبطئ تنمية قطاع السياحة ويقلل العوائد الكبيرة التي من الممكن أن يجنيها الاقتصاد الوطني، ولكن يعرقل قدرتنا التنافسية مع التأخر عن مسابقة الآخرين في بناء صناعة السياحة التي ستدر علينا كثيرا من المنافع. القطاع السياحي مملوء بالإمكانات ومكتنز بالمنافع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وقد يكون من أهمها خلق فرص وظيفية ذات دخول عالية، وتحقيق تنمية متوازنة بين المناطق، وتقديم أنشطة ترفيهية وترويحية لها تبعات نفسية وأمنية إيجابية. السياحة في جوهرها ثقافة مجتمع واعتقاد راسخ من الجميع بنجاحها وأن تميزنا هو سر جاذبيتنا، فالتنوع والتميز هما عامل الجذب الأول للسياح، وإلا لو تشابهت الأماكن لن يتميز مكان عن آخر ولن يتم التفاضل فيما بينها، وكما يقال ''لو لا اختلاف الأذواق لبارت السلع'' فهناك من يرغب في زيارة الصحراء وبعضهم الآخر يفضل المناطق الريفية أو الجبلية أو ربما الاستمتاع بالمناظر البحرية وهذا التنوع ليس جغرافيا وحسب ولكنه ثقافي يتيح الفرصة في التعرف على عادات وتقاليد المجتمعات المحلية وطباعهم وتراثهم وتاريخهم وكيفية معيشتهم. هذا التميز الثقافي لكل موقع ولكل بلد هو النكهة الخاصة (إن صح التعبير)، التي تخلق التميز والجاذبية. ولأن السياحة مرتبطة بالموقع وما يحويه من تضاريس وثقافة فهي إذا صناعة وطنية 100 في المائة، ولا يمكن بأي حال من الأحوال، إلا أن تكون كذلك فالناس هم من يخلق الفرق في المنتج السياحي بثقافتهم المتميزة وأسلوب حياتهم وطرق معيشتهم، إضافة للبيئة الطبيعية. وإذا كان ثمة تفاوت في مستوى النجاح بين الدول في تنميتها السياحية فهو يرجع في المقام الأول لثقافة الترحاب والضيافة وقبول السياح وتقبل الغرباء مقرونا بالدعم الرسمي للسياحة كخيار استراتيجي والتزام تام وعمل جاد تهيأ لها جميع الظروف والإمكانات لضمان نجاحها، لأن نجاحها يعني نجاحا للتنمية الاقتصادية والاجتماعية وكسرا للحاجز النفسي في أننا نستطيع تحقيق الإنجاز متى ما قررنا بعزيمة وإصرار وركزنا جهودنا وعملنا بمهنية وإخلاص ودافعية ووضوح والتزام وتعاون. نعم نستطيع أن ننجح بالمشروع السياحي الوطني إذا تجنبنا إدخاله متاهة البيروقراطيات العامة الجامدة وإجراءاتها المطولة، التي تقتل الإبداع والابتكار وسياساتها التناحرية فيما بينها التي تشتت الجهود والموارد وتفقدنا النظرة المشتركة والعمل التكاملي أساس التنمية السياحية. قطاع السياحة ليس كالقطاعات الاقتصادية الأخرى التي يمكن أن يتولى مهمتها جهة واحدة بل يتطلب عملا مشتركا وتعاونا وتكاملا في الجهود بين جميع مكونات المجتمع لإنجاحه، وهو أمر لا يمكن تحقيقه إلا بنظرة جماعية وإيمان عميق بأن الجميع سيستفيد من التنمية السياحية دون استثناء. مشكلة السياحة أنها قطاع أشبه ما يكون بالهواء مهم جدا ولكن لا يرى بعضهم أهميته وآثاره الاقتصادية والسبب يعود لأمرين: الأول - أنه قطاع متشعب ومتعدد التأثيرات وفي كل اتجاه فلا يكاد يكون هناك نشاط اقتصادي إلا وتتداخل السياحة معه، وبالتالي قد لا يعزى سبب النمو الاقتصادي لها. الأمر الآخر أن آثاره الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الكبيرة تتحقق في الغالب على المدى الطويل، وهذا ما لا يستطيع رؤيته من اهتماماتهم لا تتعدى أسوار البيروقراطية وإجراءاتها الرتيبة وتفكيرهم لا يتجاوز مداه الأسابيع وربما أقل من ذلك. الأدهى والأمر هناك من يتصور أن السياحة قطاع ترفيهي وترويحي وينحصر في الاستمتاع بأجواء مناخية لطيفة وحسب، بينما النشاطات السياحية تشمل عديدا من الفعاليات مثل سياحة المعارض والسياحة الصحية والسياحة الثقافية، وغيرها، كما أن السياحة لها دور فاعل في زيادة اللحمة الوطنية وتعزيز الانتماء الوطني، هذا إضافة إلى تعريف العالم بموروثنا الثقافي الثري وتصحيح التصورات الخاطئة عن السعودية، وهي في الوقت ذاته تصب في اتجاه المبادرة التي تبناها خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله في تفعيل الحوار بين الحضارات والتقريب بين الثقافات. ولا شك أن السعودية لديها الكثير الذي تقدمه في مجالات عدة من التنوع الطبيعي إلى الإرث الثقافي إلى الخدمات الحضرية المتعددة. الأمر يعود مرة أخرى إلى أي مدى هناك قناعة بالتنمية السياحية؟ وإلى أي مدى نرغب كمجتمع أن نستثمر بها وأن ندعمها؟ الدعم لا يعني فقط الدعم المالي وحسب، وهو أمر مطلوب وضروري حتما (على غرار القطاعات الأخرى الناشئة مثل المدن الاقتصادية والمشاريع الزراعية والصناعية)، ولكن التعاون والتكامل بين الأجهزة الحكومية في خلق بيئة سياحية متكاملة جاذبة ومريحة تزخر بأسباب السلامة والصحة العامة والذوق الرفيع. على سبيل المثال تمثل الطرق البرية شريانا أساسيا للتنقل السياحي، ومع هذا نجد أن مستوى استراحات الطرق غير مرض بل مترد جدا ومخجل، ما يؤثر سلبا في راحة المسافرين ورضاهم ويقلل من استمتاعهم برحلة الطريق، وهذا بلا شك عيب سياحي كبير وقبل هذا عيب إداري. بعضهم يظن أن الهيئة العامة للسياحة والآثار هي المسؤولة عن تطوير استراحات الطرق، وهم صادقون في حدسهم وتصورهم، إذ من المفترض ومن الطبيعي أن تقع ضمن اختصاصاتها ولكن في واقع الأمر هي ليست مسئولة عنها! الهيئة العامة للسياحة والآثار عملت جهدا كبيرا وجبارا في البناء المؤسسي لقطاع السياحة شمل عديدا من المبادرات قد يكون من أبرزها وضع إطار تنظيمي لقطاع السياحة، بعدما كان مبعثرا ويعمل بعشوائية تامة وبمبادرات فردية خجولة. كما أن الهيئة صاحبة الريادة في تفعيل العمل المشترك بين الأجهزة الحكومية عبر مذكرات التفاهم التي تحقق التكامل والتفاهم والتنسيق بينها. وهناك الكثير مما عملته الهيئة في مجال إعادة تثقيف المجتمع وترسيخ مفهوم السياحة. ومع ذلك تظل الهيئة أمام تحديات كبيرة وعراقيل قد لا تستطيع تخطيها وأهمها إصرار كثيرين على التعامل مع قطاع السياحة من منطلق بيروقراطي صرف والاعتقاد أن إنشاء مؤسسة حكومية مختصة بالسياحة وحده كفيل بنجاح المشروع السياحي! السياحة مطلب وطني ويجب أن يفهم من هذا المنطلق وليس من منظور البيروقراطية الضيق! هناك نجاحات كبيرة تحققت على الصعيد الوطني مثل صناعة البتروكيماويات وزراعة القمح، القاسم المشترك بين هذه المشاريع هو الدعم اللامحدود الذي منحته الدولة لتلك القطاعات وغيرها حتى قامت واشتد عودها. هذا يدعو وبشدة للاستفادة من هذه التجارب الوطنية الناجحة في دعم قطاع السياحة بذات الدرجة والقوة بما يتناسب مع أولويته الوطنية. صناعة السياحة صناعة وطنية 100 في المائة، وهذا يؤكد إسهامها في توليد وتوطين الوظائف التحدي الأكبر الذي مازلنا نحاول التصدي له. التنمية السياحية قد تكون العلاج الناجع الذي نبحث عنه في مواجهة شبح البطالة بين الشباب وفي الوقت ذاته هي وسيلة للترويح والتنفيس عنهم وتحصينهم ثقافيا بجذبهم للاستمتاع بالسياحة الداخلية. السياحة هي كنز مملوء بالمنافع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأمنية مفتاحه الثقة والعزيمة والإصرار والدعم الكافي من المجتمع فهي منه وإليه.
إنشرها