Author

«إلبان».. أخي التركي!

|
.. قبل سنواتٍ ظهر رقمٌ غريبٌ على هاتفي من خارج البلاد.. وكان في الطرفِ الآخر شخصٌ يتحدث بالإنجليزية الثقيلة: - أنت مستر نجيب عبد الرحمن الزامل؟ - نعم.. من أنت؟ - لا، أنت لا تعرفني ولم تسمع بي أبداً، وأنا أسمع باسمك من سنين طوال؟ - عجيب؟ كيف؟ - لي قصة تهمك .. هل لديك الوقت؟ ولأنه كان المتصل، فلم يكن هناك ما يمنع من أن استمع.. - تفضل، كلي آذان تستمع. -أنا تركي اسمي «إلبان». قصّتي من أكثر من عشر سنين، في مدينة «أضنة» التركية، وكنتُ وقتها شاباً صغيرا متسكعاً مفلِساً، أتطلّعُ مصادرَ العمل كل يوم وكل ساعة، ثم أتبطل لأسابيع، فلا يكون شغلي الشاغل إلا التجول في شوارع وميادين أضنة بحثا عن أي بارقةِ عمل.. في يوم مررت بقرب مطعم يتبع لفندقٍ صغير وأنيق، وخرج منه رجلٌ وقور، وظننته تُركيا، فقدّرتُ أنه صاحبَا لمطعم أو مالك الفندق، فاقتربتُ منه متوجِّسا، وسألته إن كان له علاقة بالمطعم أو الفندق، وأني أبحث عن عمل. ابتسم بوجهي بسمة لا أنساها، وقال لي بتركيةٍ مفككة إنه لا يتكلم التركية، فعرفت أنه أجنبي.. ومضى يريد دخول بوابة الفندق. وفجأة، هوى على الأرض مغشياً عليه.. تشنجتُ للحظات من الفزع، ثم انطلقتُ إليه ووسّدت رأسَه بين يدي محاولا إيقاظه.. لم أجد وسيلة إلا أن أطلب سيارة أجرة، وأخذته إلى مستشفى كبير في المدينة، وأُنْعِش سريعا، وتطلب أن يبقى في المستشفى لعدة أيام.. يتأكد «إلبان» أني أستمع، فيتنهّدُ ويتابع: - ذهبتُ لزيارته بعد أن فاق ونـُقل إلى غرفة خارج الإسعاف، وعرّفته بنفسي، وعرفني باسمه مضيفا: «سمّني أبو نجيب»، ومن ذاك اليوم عرفتُ اسمك. وقد تآلفنا من اللحظة الأولى، وتعلقت به حتى صرت أقضي عنده يومياً كامل ساعات الزيارة، ثم لا أكاد أطيق انتظارا حتى موعد الزيارة القادمة.. وجئتُ يوما، ولم أجد «أبو نجيب».. فانطلقتُ جرياً للفندق. يضحك متذكرا ويتابع: - وجدت «أبو نجيب» في غرفته، ولما رآني قام وعانقني، وقال لي إنه خائف أن يفقدني، وترك لي مذكرةً في المستشفى، وأجبته بأني لم أسأل واتجهتُ هنا جرْياً. جلس بجواري، يشرح لي أني في موضع ابنه نجيب، وأنه يريد أن يكافئني كما يكافئ الوالدُ ابنـَه، ودسّ في جيبي ظرفاً فيه نقود. قفزتُ محتجّاً، وقبلتُ رأسـَه وقلت له: أنا لا أريدُ مالاً، لكني أريد منك أن تنصحني وتوجهني كي أصير تاجراً ناجحا.. يصمت «إلبان» حتى ظننت أن الاتصالَ انقطع، ومن وسط الصمت ينفجر صوته مرة أخرى: - «أبو نجيب» صار يوجهني وينصحني، وقال لي إنه يجب أن أبحث عن فرص العمل في خارج تركيا إن ضاقت تركيا بالأعمال، وأن أدرس مع العمل إن ذهبت لبلد أوروبي، ونصحني ببريطانيا. جاء اليومُ الذي سيعود فيه لبلده، وقال لي الكلمات التالية التي لن أنساها ما حييت: «إن شاء الله يا إلبان أجيء مرة إلى «أضنة» وأسكن فندقاً تملكه أنت»... قلتُ: «آمين». ضحك إلبان برنةٍ عميقةٍ وتابع: - بعد سفر والدك لم يمض شهران إلا وأنا في لندن.. وهناك عملتُ ليلَ نهار بأقسى الأعمال، ودرست الجامعة، ثم تعرفت على زوجتي الإنجليزية، وهي محاسبة. وأسسنا عملا صغيرا كبُر مع الأيام. بعد سنواتٍ تجمعت عندي ثروةٌ صغيرة، اقترحت على زوجتي أن نعود إلى أضنة.. ووافقـَت. أسستُ شركة، ونمَتْ الشركة، ثم دخلت في استثمار السياحة والفندقة.. هل تعلم من أين أهاتفك يا نجيب؟ - من أين؟ - من الفندق الذي فيه به «أبو نجيب».. لقد صار مُلكي! وتحققت أمنية أبيك، ولم أجد طريقة للاتصال به إلا عن طريق سفارتكم الذين زودوني برقم هاتفك.. والآن أريد أن أدعو والدي أبو نجيب ليزورني في فندقي كما كانت أمنيتـَه.. - أبي مريض ولا يستطيع السفر.. ولكن تأكد سأخبره، وأعدك أني سأزورك يوما.. - وعد؟ سأكلمك فيما بعد. وتواصل معي إلبان.. ثم انقطع لسنوات حتى جاء يوم: - أخي، أنا إلبان، عذرا على كل هذا التأخير الطويل، لقد وقعتْ لي أحداثٌ ومرِضتْ زوجتي مرضا طويلا، واختارها الله. والآن أريد أن تزورني أنتَ والوالد، فإني بشوق عظيم إليه؟ - الوالد طلب اللهُ أمانته يا إلبان.. صمتٌ ذاهل.. ثم نحيب: «لكنه كان سيزور فندقي، لقد وعدني .. كانت أمنيته.. وكانت أمنيتي». - لقد رآه بإذن الله يا إلبان.. وزارك بقلبـِه، لقد تأكدتُ من ذلك. - أخي، أخي.. (ثم مجرّد بكاء..).. وعرفتُ أنه لا يكفي أن تكون ناجحاً، فهذا شيءٌ عادي، النجاحُ العظيمُ أن تكون منارةً منيفةً شمّاء تهدي قواربَ التائهين لمراسي النجاح.. ولا تسأل من في القارب!
إنشرها