Author

يوم في حياة صديق ياباني

|
آوكي صديق ياباني تعرفت عليه أثناء الدراسة العليا في جامعة واسيدا في طوكيو، حيث كان مكتبانا متجاورين في صالة مفتوحة تجمع طلبة الماجستير والدكتوراه مع البروفسور تامورا المشرف على دراستنا. لقد تربى آوكي في بيئة اجتماعية وتعليمية تُشجع على التصرف بأدب جم واحترام للآخرين وإخلاص في العمل منذ طفولته، فاليابان بلد مزدحم جداً خال من الموارد الطبيعية، وإذا لم تكن هناك قيم صارمة تحكم المجتمع، فإن ثقافة الفوضى ستعم. وكثيراً ما كان الدكتور يستضيفنا في مطاعم غالية حول الجامعة - لا نستطيع كطلبة تحمل تكلفتها - لتوطيد روح الجماعة بين طلبته وتحسس مشكلاتهم الخاصة مثل البحث عن وظيفة أو حتى زوجة مناسبة تماما, كالأب. روح الأبوة هذه كثيراً ما جعلته يفاجئ عائلتي بإحضار كميات من البرتقال والأغطية الشتوية لاعتقاده أننا قادمون من صحراء حارة طوال السنة لم نتعود فيها على برودة أجواء طوكيو، وهذه معلومة شائعة عن المملكة في المجتمع الياباني. وقد لاحظت أن المعلومات المتوافرة عن المملكة لدى الدكتور والصديق آوكي وغيره شحيحة جداً وتقتصر على صورة ذهنية مشوشة مستوحاة من قصص ألف ليلة وليلة وأفلام غربية مثل لورانس العرب التي تصور أننا ما زلنا نسكن الخيام بجوار آبار بترول ونركب الجمال ولكل منا أربع زوجات نُسيء معاملتهن. وبالرغم من أن اليابانيين يحملون شعوراً طيباً تجاه المملكة كبلد صديق يوفر احتياجاتهم من النفط، إلا أن صداقتي مع آوكي لم تكن أمراً سهلاً حتى أنه انتابني شعور بأن المجتمع الياباني بارد تجاه الأجانب، لأكتشف فيما بعد أنه ليس كذلك البتة، ولكنه يأخذ وقته في إقامة أي علاقة سواء مع الأجانب أو أبناء جلدته، بعدها تتحول إلى أخوة طوال العمر. بمساعدة الدكتور، التحق آوكي بشركة تجارية أضاف اسمها إلى اسم عائلته فأصبح يُعّرف نفسه مسبوقاً باسم شركته الذي يحرص في كل مرة على توضيح أنها تعمل في مجال تسويق منتجات محلية وليست مستوردة في مجتمع يعتبر الاستيراد عملا مشينا و يُقيم الفرد بعمله ومكانة شركته في الاقتصاد الوطني. في تمام السادسة من صباح كل يوم - وعندما أقول ''تمام'' فأنا أقصد بالضبط - يغادر آوكي سكن الشركة بالقرب من قرية كماكورا الساحلية ليأخذ قطار السادسة والربع المزدحم إلى طوكيو، فغالبية الموظفين يسكنون خارج المدن ويستخدمون المواصلات العامة المنظمة بشكل دقيق وفاعل وقلَما يمتلكون سيارات، فاليابان تُصنّع للعالم وليس للاستهلاك المحلي. يحرص آوكي على أن يصل شركته في نيهونباشي وسط طوكيو قبل الثامنة ليأخذ كوباً من القهوة في غرفة مخصصة لذلك ويتبادل تحية الصباح مع زملائه التي تدعو إلى الاجتهاد في العمل (قنبتة كودساي). بعد ذلك، يعود آوكي إلى طاولة عمله في صالة مفتوحة تجمع المدير بموظفيه ليردد نشيد الشركة معهم الذي ألفه كبير المديرين التنفيذيين بنفسه، يعقبه تمارين رياضية جماعية قبل أن تدق ساعة بدء الدوام الرسمي. ويبدأ يوم عمل آوكي باجتماع موظفي الإدارة ومديريهم الذي يعطي تعليمات للمطلوب تنفيذه خلال اليوم، ومن ثم يفتح المجال لطرح وجهات النظر للجميع، وينتهي الاجتماع بتأكيد المدير على أهمية العملاء لربحية ونمو الشركة مردداً المثل الشعبي الياباني الذي يضع العميل في المقدمة (أوقكسما كاميسمادس). ويمضي يوم آوكي بين زيارات العملاء وتقديم خدمات ما بعد البيع واجتماعات رسمية وغير رسمية مع فرق عمل داخل إدارته أو بمشاركة إدارات أخرى لمناقشة أعمال الشركة واتخاذ قرارات جماعية ووضع الخطط والجداول الزمنية للتنفيذ، وأمور أخرى. بعد انتهاء ساعات الدوام الرسمي، يستمر آوكي في العمل ضمن حلقة جودة Quality Circle تجمعه مع سبعة من زملائه لبحث وسائل تحسين خدمة العملاء ومسارات العمل أو إدخال أفكار لتعزيز أداء الشركة عبر نظام اقتراحات الموظفين الإلكتروني On – Line Employee Suggestion System. جدير بالذكر، أن ترك العمل قبل مغادرة المدير المباشر يُعتبر سلوكا سيئا ربما يؤخذ في الحسبان عند تقييم أداء الموظف، كما أن عودته إلى منطقة سكنه قبل التاسعة مساء يعد دلالة على عدم تفانيه في أداء عمله، مما يسبب حرجاً لنفسه وأسرته أمام معارفه وجيرانه. وينتهي يوم الصديق آوكي بتناول العشاء مع أسرته والتمدد في البانيو لمدة 30 دقيقة داخل ماء ساخن يطلق عليه اليابانيون (أوفرو) لإراحة أعصابه بعد يوم طويل حافل بالجهد والإنتاج، وفكره منصب على الغد. وختاماً، آوكي نموذج للموظف الياباني في سلوكيات عمله، تربى في بيئة اجتماعية وتعليمية تشجع على احترام وقت العمل والعملاء حتى أصبح يعيش ويتنفس هموم شركته ويتفانى في خدمتها من الثامنة صباحاً إلى الثامنة مساء دون كلل في مجتمع يُقيم الفرد حسب إخلاصه ومكانة شركته – وفي رأيي – أن الموظف السعودي مهيأ لأن يكون مثل آوكي شريطة توافر بيئة العمل التي تكافئ المجتهد وتستبعد المتخاذل, بعيداً عن داء المحسوبية.
إنشرها