Author

الكنيسة الكاثوليكية وفضيحة التحرش الجنسي بالأطفال

|
أستاذ جامعي ـ السويد
لم يكن في ودّي تعليق سلسلة المقالات عن الفتوى والإعلام والإسلام كي أكتب في موضوع شائك آخر شغل دنيا الإعلام في الغرب وأثار من الاهتمام ما لم تثره أية مسألة ذات علاقة بمؤسسة دينية في العصر الحديث. أعد قرائي الكرام بالعودة إلى السلسلة بعد أن أفرّغ ما في جعبتي عن هذا الموضوع. وأذكّر القراء الأعزاء أن الكتابة عن هذا الموضوع وفي هذا العمود غايتها الأساسية خدمتهم ومحاولة متواضعة مني لتنويرهم. شخصيا لا أعتقد أن اتهامات التحرش الجنسي بالشباب والأطفال من قبل الكنيسة الكاثوليكية ستنتهي على خير. إن ما رأيناه وسمعناه حتى الآن هو بمثابة كرة ثلج صغيرة بدأت بالتدحرج للتو من قمة جبل شاهق مغطّى بطبقة كثيفة من الثلج. والكنيسة الكاثوليكية، التي مقرها الفاتيكان في روما، وهي أكبر وأغنى الكنائس في العالم قاطبة، ويبلغ عدد أتباعها نحو 1.3 مليار شخص، وهو ما يوازي تقريبا عدد المسلمين في العالم، دفعت حتى الآن أكثر من ستة مليارات دولار تعويضات لضحايا التحرش الجنسي من قبل كهنتها. يرأسها البابا، ويطلق عليه أتباعه «هولي فاثر»، أي الأب الأقدس، ويملك سلطة مطلقة في أمور العقيدة والإيمان تصل درجة العصمة، أي أن ما يحلّه في الأرض محلول في السماء وما يربطه في الأرض مربوط في السماء. وسنتحدث عن العصمة في مقال منفصل، بعون الله. ولكونه الشخصية المسيحية الدينية الأبرز في العالم يربط كثير من العرب المسلمين المسيحيين بين ظهرانيهم به وبالعقيدة الكاثوليكية التي يتربع على عرشها. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن كثيرا من المسيحيين في الغرب ولا سيما في الشرق من غير الكاثوليك، لا يأتمنون الفاتيكان وسلطتها المطلقة لأسباب سنتطرق إليها في مقال منفصل. اتهامات التجاوزات الجنسية على الأطفال من قبل الكنيسة الكاثوليكية ليست وليدة اليوم. فهذه التهامات أثيرت بصورة جدّية قبل تولي البابا الحالي بنديكتوس السادس عشر سدة البابوبية قبل خمس سنوات. والتحرش الجنسي بالأطفال، ولنكن منصفين، رغم كونه آفة بشرية مقيتة تشمئز منها الأبدان، تعانيها معظم المؤسسات التي تعنى بالأطفال. والأطفال في دولة كالسويد مثلا حاجة ثمينة تبزّ القدسية التي يحيط بها الكاثوليك البابا ولا تعلو عليها أي حاجة ثمينة أخرى في المجتمع دينية أو دنيوية. والسويد لا ترحم المؤسسة أو الشخص الذي يعتدي على طفل بالضرب مثلا مهما كان السبب، فكيف لو تعلق الأمر بالتحرش الجنسي؟ هل كانت هذه الأمور غائبة عن الكنيسة الكاثوليكية؟ وإن كان التحرش الجنسي بالأطفال ظاهرة تحدث في معظم المؤسسات، لماذا التركيز على الكنيسة الكاثوليكية إذا؟ هناك أجوبة كثيرة وتحاليل مختلفة وردود بعضها يعزو ذلك إلى نظرية المؤامرة. إلا أن الجواب، حسب وجهة نظري كأكاديمي، يتعلق بالتركيبة المؤسساتية للكنيسة الكاثوليكية ذاتها. وزاد الطين بلة انتخاب الكاردينال راتزينكار لسدة البابوية الذي تبنّى اسم بندكتوس السادس عشر. المسألة لا تتعلق بالتحرش الجنسي بالأطفال قدر تعلقها بالطريقة التي تعاملت فيها الكنيسة مع مرتكبي هذه الجريمة. الكنيسة مارست سياسة تخالف تعاليم نبي المسيحية عيسى بن مريم في معالجتها لهذه القضية. إنها حاولت إخفاء هذه الانتهاكات ورفضت معاقبة مرتكبيها لسنين، لا بل لعقود وربما قرون، بينما عيسى يقول لا يمكن إخفاء الشمس بالغربال وقصاص الذي يعتدي «على واحد من هؤلاء الصغار» (الأطفال)، حسب تعاليمه، هو ربط عنقه بحبل وشدّه بحجر الرحى (الذي قد يزن أطنان) ورميه هو والحجر في قعر البحر. لماذا البابا بندكتوس السادس عشر بالذات؟ الجواب لدى عالم اللاهوت السويسري الأب هانس كونّك. لقد كتب هذا العلامة رسالة غضب شديدة اللهجة إلى الأساقفة الكاثوليك متهما البابا بقيامه «بهندسة سياسة إخفاء هذه الجريمة على مستوى العالم». وأغرب ما في هذه الرسالة أن صاحبها نشرها على الملأ ويتهم فيها البابا، الذي تفترض فيه العصمة، باقتراف مخالفات كثيرة ليس منذ تسنم منصبه الحالي فقط، بل منذ وجوده على رأس هيئة تعنى بشؤون العقيدة في الفاتيكان منذ سنة 1981. ويقول كونّك إن البابا بندكتوس السادس عشر أضاع فرصا ثمينة لمساعدة سفينة الكنيسة الكاثوليكية على مواجهة أعاصير ومتطلبات العصر الحالي. وكم كان كونّك منصفا عندما أدرج الهجوم غير المبرر الذي شنه البابا على محمد نبي الإسلام في عام 2006 كإحدى المحطات الكالحة في سيرته. واليوم يبدو أن الندم الذي يبديه البابا والاعتذارات العلنية التي يدلي بها لا تقع على آذان صاغية. وآخر قول له كان أنه «يشعر بالعار» وأنه «يقود كنيسة جريحة». بيد أن كل هذا لم يمنع قرّاء المقال في موقع يا هو من أن يمطروه بعشرات الآلاف من التعليقات غالبيتها سلبية للغاية وفي غضون ساعتين فقط من نشره. وإلى اللقاء،،،،
إنشرها