Author

مجلس السياسات الاقتصادية الياباني وعلاقته بالمجتمع

|
كان البروفيسور تامورا، المشرف على دراستي العليا في جامعة واسيدا في طوكيو والتي تعد أفضل الجامعات اليابانية في الهندسة والاقتصاد وإدارة الأعمال، يُذكرني دائماً أن الاقتصاد الذي لا يُسهم في تحسين نمط حياة المجتمع ما هو إلا كلام عديم الجدوى حول أمر ذي جدوى، وأن السياسات الاقتصادية التي لا توضح لنا بالضبط إلى أين نتجه ما هي إلا عموميات نظرية تصيبنا بخيبة الأمل والغضب. نظرياً، يُفترض أن يكون اليابانيون أفقر شعوب الأرض، فلا موارد سوى أكثر من 120 مليون مواطن يتزاحمون في جزر متناثرة لا تتعدى سدس مساحة المملكة عُرضة للزلازل والبراكين المستمرة. في ظل هذه الظروف الصعبة، كيف تحول الاقتصاد الياباني من أشلاء الحرب العالمية الثانية إلى ثاني أكبر اقتصاد بين مجموعة السبع الكبار خلال فترة زمنية قياسية في معجزة اقتصادية نالت إعجاب العالم؟ وكثيراً ما ورد هذا التساؤل في ذهني وأنا أخرج من متحف هيروشيما أو متحف نقازاكي اللذين يجسدان دمار قنبلتين نوويتين ساوتهما بالأرض تماماً إلى شوارع هاتين المدينتين المفعمة بحياة عصرية ومجتمع راق واقتصاد زاهر. لا يمكن الإجابة عن هذا التساؤل دون التطرق للدور الاستثنائي الذي لعبته الحكومة اليابانية في قيادة دفة السفينة عبر أمواج الاقتصاد المحلي والإقليمي والدولي المتلاطمة، كان آخرها الأزمة المالية العالمية التي كانت اليابان أول المتعافين من آثارها في الوقت الذي تتناقص فيه اقتصادات مجموعة السبع الأخرى. وقد أنشأت الحكومة اليابانية مجلس السياسات الاقتصادية والمالية برئاسة رئيس الوزراء وعضوية أربعة وزراء ومحافظ بنك اليابان المركزي, إضافة إلى أربعة ممثلين لقطاع الأعمال وذلك لتحقيق الأهداف التالية: ـ رسم السياسات الاقتصادية المرحلية. ـ توحيد مواقف الجهات الحكومية وقطاع الأعمال. ـ بلورة توافق وطني وحشد تأييد المجتمع. جدير بالذكر، أن الأمانة العامة للمجلس مرتبطة إدارياً بوزارة السياسات الاقتصادية والمالية التي تعمل – ضمن مهام أخرى – كمركز أبحاث يعج بالمخططين الاستراتيجيين يدعمون المجلس بدراسات حديثة مبنية على إحصاءات اقتصادية ومسوحات ميدانية حول احتياجات المجتمع لكل مرحلة. وفي رأيي، أن مجلس السياسات الاقتصادية والمالية يضع المجتمع في مقدمة اهتماماته، ربما لحرص الحزب الحاكم على أصوات الناخبين تبعاً للمثل الشعبي الياباني القائل ''إذا سقط القرد من الشجرة يظل قرداً، أما إذا سقط النائب في الانتخابات فإنه يتحول إلى لاشيء''. لذلك، تركز استراتيجيات المجلس على مواكبة متطلبات المجتمع، كما حصل في بداية هذا القرن عندما بدأ اليابانيون يعانون تزايد عدد كبار السن وقلة المواليد، حيث تبنى المجلس المبادرات التالية: ـ تشجيع التوظيف المستمر وإعادة التوظيف لكبار السن في وظائف استشارية. ـ رفع نسبة العاملات وتحفيزهن على الاستمرار في العمل مدة أطول. ـ تعميم استخدام تقنية المعلومات والروبتات في القطاعين العام والخاص. أثناء فترة عملي في اليابان، كثيراً ما كنت ضيفاً على عديد من المؤتمرات الاقتصادية مع مخططين استراتيجيين ذوي شأن كبير في الحكومة وقطاع الأعمال، لأكتشف أنهم لا ينظرون إلى الاستراتيجيات على أنها منهج علمي محض متخم بشرائح (البوربوينت) كما يفعل الغربيون، بل على أنها مبادرات نشطة ونابضة بالحياة تحدد اتجاهاً واضحاً لتحقيق تطلعات المجتمع. ويحرص مجلس السياسات الاقتصادية والمالية على حشد تأييد المجتمع الياباني لمبادرته الاستراتيجية من خلال نظام اتصالات شفاف مستخدماً وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية الحكومية والخاصة على النحو التالي: ـ عقد مؤتمر صحافي بمجرد انتهاء أي اجتماع. ـ نشر محاضر الاجتماعات بعدد ثلاثة أيام من عقدها. ـ إصدار مطبوعات للتعريف بالمجلس ونشاطاته. على الجانب الآخر من القارة الآسيوية، استبشر المجتمع السعودي خيراً بتأسيس المجلس الاقتصادي الأعلى بقيادة ملكية ومشاركة وزارية موسعة وأمانة عامة مؤهلة, إضافة إلى 16 خبيراً سعودياً يمثلون قطاعاتنا الاقتصادية المختلفة، خاصة أن الأمر يتعلق – ضمن غايات اقتصادية أخرى – بترسيخ أمن ورفاهية المواطنين وزيادة فرص توظيفهم والعمل على استقرار الأسعار وكذلك تنمية اقتصادنا الوطني بصورة منتظمة. وفي رأيي، أن توافر مقومات نجاح المجلس الاقتصادي الأعلى السعودي لتحقيق تطلعات المواطنين لن يكون عائقاً، أمام الاستفادة من تجربة مجلس السياسات الاقتصادية والمالية الياباني الناجحة وخصوصاً في مجال حشد تأييد المجتمع لمبادرات المجلس الاستراتيجية عبر نظام اتصالات إعلامي شفاف لردم الفجوة المعرفية لدى الرأي في ظل سياسات اقتصادية تضع المجتمع في المقدمة.
إنشرها