Author

الجهل المكتسب

|
يسعى الإنسان إلى العلم والتعلم واكتساب الخبرات العلمية والعملية وتطوير الذات واكتساب مهارات مختلفة طالبا في مسعاه البعد عن الجهل، والنجاة منه، وفي خضم هذا السعي واكتساب الخبرات ينعكس ما اكتسبه هذا الإنسان على سلوكه بشكل أو بآخر، وهذا الأمر مسلم به وطبيعي ويأتي بشكل تلقائي - أي انعكاس المعرفة والخبرة على السلوك البشري، ولكن الغريب أن ينتج عن هذه المسيرة اكتساب للجهل! ذكر في كتاب ''فكر المستقبل - كيف تفكر بوضوح في زمن التغيير''، الذي نشر عام 2006 ميلادية، لإيدي واينر وارنولد براون ''أنه عندما تتراكم لدى الإنسان كميات هائلة من المعلومات والخبرات التي تتعلق بالحاضر ولكن تعوقه دون رؤية المستقبل فإنه يطلق على هذه الظاهرة مصطلح ''الجهل المكتسب''، وهنا لا يأتي ''أي الجهل'' بشكل طبيعي أو تلقائي، وإنما يكتسب كما يكتسب العلم. فإذا ما أردت أن تسير في ركاب التقدم المتسارع للقرن الحادي والعشرين فلا بد أن تتخلص من ركام ''الجهل المكتسب'' الذي يثقل ذهنك ويحجب عنك رؤية التغيير''... (انتهى). لا أحد منا بمأمن من النجاة من ظاهرة ''الجهل المكتسب''، ويرجع ذلك في تقديري إلى العمل الروتيني وتكرار الإجراءات والعمليات اليومية التي نقوم بها. ويحصل هذا الجهل عند اكتفاء أحدنا بالمعرفة والخبرة التي اكتسبها سابقا ومقاومته لاكتساب أي معرفه جديدة، وبالتالي يقوم بتكرار معرفته وخبرته السابقة ولا يقوم بتنميتها وتطويرها والسماح للتغيير بأن يكون جزء من ممارسته العملية وثقافتها. وبالتالي تصبح الخبرة العملية المكتسبة وإن كبرت هي خبرة مخادعة بحيث إنها لا تعد أكثر من مجموعة من سنوات الخبرة القليلة وإنما متكررة. كما أنه من الملاحظ أن بعضنا يمارس هذا الجهل بل ويتعدى ممارسته له بأن يصبح جهلا مركبا بحيث إنه يجهل نه يعاني الجهل المكتسب. الجهل المكتسب يأتي مخفيا ومبطنا بحيث إنه يصعب على الشخص أن يدرك أنه مصاب به، ولكن هناك علامات ومؤشرات تساعدنا على تشخيص المصاب بهذا المرض – إن صح التعبير– فعندما نرى شخصا يكتفي بما لديه من مهارات ومعرفة وخبرة عملية ويتشبث بطريقته لأداء عمله ويرفض التعرف على طرق أخرى ويحارب التغيير سواء في الإجراءات أو في طريقة العمل دون الاستماع واختبار المقترح الجديد، بسبب اعتقاده الجازم بأن الطريقة التي يسلكها لأداء عمله أو الإجراءات التي يطبقها هي وحدها الصحيحة ويرفض تجربة أي طريقة أو اتباع أي إجراءات أخرى بديلة فحينها نعلق الجرس. عندما لا يبحث الشخص عن وسيلة أخرى لأداء العمل بطريقة أسهل أو أسرع أو أفضل أو أقل تكلفة أو غير ذلك من تحسين الأداء ولا يفكر أيضا في تحسين المنتج أو الارتقاء به فحينها نعلق الجرس. عندما يستسلم الشخص للروتين ويستسلم للإجراءات المعمول بها ويجعلها عائقا دون استشراف المستقبل ودون تذليل صعوبات العمل فحينها نعلق الجرس. عندما ينتقد شخص إجراء معينا أو طريقة معينة لأداء العمل وهو في حقيقة الأمر لا ينتمي للمنظمة أو للشركة التي تقوم بهذا الإجراء أو تتبعه، ثم تقوم هذه المنظمة أو الشركة أو من يمثلها برفض النقد شكلا ومضمونا دون التحقيق فيه واستثماره فحينها نعلق الجرس. الغارقون في كومة العمل اليومي وإجراءاته هم منشغلون بتسيير الأعمال، ولذلك أي محاولة للتغيير ستشكل نوع من المخاطرة لمتابعة تسيير العمل ولذلك تنتج مقاومة للتغيير بشكل طبيعي لا يلامون عليها. ولكن في الوقت نفسه عليهم أن يدركوا أن الرؤية من بعيد وخارج صندوق العمل اليومي لها فوائد فهي تعطي رؤية أوسع للعمل، وقال الحكماء سابقا ''رحم الله امرءا أهدى لي عيوبي'' وقالوا ''الجمل لا يرى سنامه''، فبالتالي أعين الغرباء مفيدة لمن يُحسن استثمارها. قبل قرابة الثلاثين عاما أنتج فيلم كرتون تدور أحداثه حول إرسال سكان كوكب آخر لمحققين أو جواسيس إلى الأرض لغرض التجسس والتعرف على من يسكن الأرض، وبعد مضي وقت لدخول الغرباء إلى كوكب الأرض وصفوه بالتالي: تسكن الأرض مخلوقات تسير على أربع عجلات تسمى ''سيارة'' ولدى كل من هذه المخلوقات عبد أو خادم، يقوم الخادم كل صباح باكر بعد سماعه لجرس مزعج يعكر عليه صفو نومه لكي يأخذ هذا المخلوق ''السيارة'' إلى مكان تجمع لصديقاتها يسمى ''الكراج''، ثم يذهب هذا الخادم إلى سجن مغلق لا تدخله الإضاءة الطبيعية ولا التهوية الطبيعية ثم يقوم بعمل مجهد يستمر قرابة الثماني ساعات ثم في آخر كل شهر يستلم هذا الخادم مبلغا من المال لكي يطعم هذا المخلوق ''السيارة'' بما يسمى بالوقود. لو نظرنا إلى تقرير هؤلاء الغرباء سنجد أنهم بينوا وجهة نظر ربما لم تصل إلى ذهننا ولم ندركها، فلو تفحصنا ما نقله هؤلاء الغرباء لوجدنا أسباب نقلهم لهذا ثم سندرك أهمية تصحيح وضعنا. المعاملات اليومية قد تشكل حاجزا يحول بين الشخص وتطوير عمله وبالتالي يجب أن يكون هناك تقييم للأداء من قبل من يقوم به بشكل دوري، فعليه أن يُعرف مفاتيح لقياس أدائه ولا مانع من أن يستفيد من ''أعين الغرباء'' بدعوة من يثق برأيهم ويطلعهم على نتائجه لقياس أدائه كما يطلعهم على الإجراءات المختلفة لأداء العمل ويطلب منهم تقييمها. وأيضا يجب على رب العمل أن يمهد لموظفيه من يستفيدون من آرائهم ونقدهم. العمل بهذه الروح المنفتحة والاعتقاد الجازم بأنه من السذاجة أن تعمل نفس الشيء وبالطريقة نفسها ثم تتوقع نتائج مختلفة، وأيضا الاعتقاد الجازم بأنه دائما هناك فسحة للتطوير، وفي الوقت نفسه يجب أن يدرك الشخص أن علينا أن نخاطر أحيانا ونتحمل المسؤولية حتى نظفر بالثمر- فمن يرقى النخل والشجر يخاطر ولكن سيصل إلى الثمر-  فحينها يسهل تقبل التغيير والتعاون من أجل تنفيذه، ويتلاشى الجهل المكتسب أو على الأقل يحجم. تقديم الخدمة للمستفيد وتنفيذ المشاريع وممارسة العمل الروتيني تعد بيئات متغيرة بطبيعتها، ولذلك يجب على العاملين فيها التخلص من الحمولات الذهنية الزائدة والأحكام المسبقة والتابوهات البغيضة لنرى مستقبل هذه المشاريع والخدمات بوضوح أفضل، وبالتالي يسهل علينا اقتراح التغيير ثم دراسته ثم تنفيذه، والسعي الدؤوب إلى التطوير، وبالتالي نحقق هدف حسن الإدارة وتحسين الأداء.
إنشرها