Author

المجالس البلدية.. من العمل البيروقراطي إلى العمل النيابي

|
عقدت في الأسبوع الماضي ورشة عمل في وزارة الشؤون البلدية والقروية لمناقشة التوجهات الرئيسة لنظام المجالس البلدية الجديد بمشاركة مجموعة من أعضاء المجالس البلدية وهيئة التدريس في الجامعات السعودية ومركز الأمير سلمان للإدارة المحلية. وتأتي الورشة ضمن سلسلة من الإجراءات التي اتخذتها الوزارة لتنفيذ قرار مجلس الوزراء القاضي بإفراد المجالس بنظام خاص بها، وهذه الإجراءات تتم بمستوى مهني عال وعلى درجة كبيرة من الشفافية والحرص على إشراك أكبر عدد من المهتمين والمختصين في مجال العمل البلدي والإدارة المحلية. هذا التوجه الحميد في جعل النظام الجديد منسجما مع تطلعات المواطنين يقوده الدكتور منصور بن متعب وزير الشؤون البلدية والقروية ذو الرؤية المستقبلية والنظرة الواقعية العملية. إن ما يستشف من تصريحات وأطروحات سموه هو دفعة نحو تطوير النظام بالقدر الذي ينسجم مع الوضع الإداري ويناسب الواقع الاجتماعي. فهو يتبع نهجا تطويريا ورغبة أكيدة في إحداث التغييرات المطلوبة وفي الوقت ذاته إدراك تام للثوابت الوطنية والمحددات السياسية والثقافية ليدور التطوير في فلكها ويستكشف حدودها العليا وربما سعى في رفع سقفها. وأزعم أن بحسه الإداري كمتخصص وممارس للإدارة العامة يعلم يقينا أنه يتحتم تطوير المجالس البلدية عند مستوى يضمن كحد أدنى إسهامها في تحقيق كفاءة وفاعلية في إدارة المدن والتنمية المحلية. التطوير لم يعد ترفا إداريا بل ضرورة تحتمها المتغيرات والمستجدات على الساحتين الداخلية والخارجية ورفع مستوى التنافسية ونقل المجتمعات المحلية لمستويات أعلى من التحضر والقدرة على إدارة شؤونها. لم يعد مقبولا تطوير النظم في دائرة ضيقة من التنظيمات البيروقراطية التي تدخلنا في دوامة من نقاش الجزئيات والإغراق في الشكليات على حساب الموضوعات الأهم والحرجة وذات التأثير الكبير في تطوير المجتمعات المحلية. الصياغة القانونية للنظام الجديد وكتابة مواده يلزم أن تعكس الأهداف الاستراتيجية والمنطلقات والتوجهات الرئيسة التي تلبي الغرض الأساسي من إصدار مثل هذا النظام التطويري والإصلاحي, وتأتي في مقدمتها المشاركة الشعبية في صناعة القرارات المؤثرة وإدارة المجتمع المحلي وتحقيق مصالحه. هناك عدة تساؤلات تستوجب الإجابة عنها لضمان تحقيق المطلوب من إصدار النظام الجديد من أهمها: أين نحن ماضون بهذا النظام؟ وماذا عساه أن يقدم من جديد؟ وإلى أي مدى سيعزز ثقة المواطنين بالمجالس البلدية والمشاركة في العمل البلدي؟ أعتقد أن المهمة الرئيسة هي رفع مستوى المسؤولية الجماعية لدى سكان المدن وتحفيزهم للاهتمام بالقضايا العامة المحلية وتكوين حس الانتماء لبلداتهم والحرص على المساهمة في تنميتها. إن نظام المجالس البلدية إذا ما منح صلاحيات أكبر وأشمل في إدارة الشأن المحلي سيكون له أثر كبير في الضبط الاجتماعي على المستوى الوطني وسيؤدي إلى معالجة القضايا والمشكلات الاجتماعية بحلول محلية واقعية ويزيح عن كاهل الأجهزة المركزية مسؤوليات متعددة تشغلها وتشاغلها عن أداء أدوارها الرئيسة الوطنية. إن نطاق الإشراف الكبير الذي تضطلع به الأجهزة المركزية لم يعد مجديا وغير عملي وغير واقعي, وهناك كثير من الشواهد التي تشير إلى أهمية تضييق نطاق الإشراف عبر هيئات مجالس بلدية تتمتع بالاستقلال الإداري والمالي قادرة فعلا على مواجهة التحديات وبناء مستقبل المجتمعات المحلية. إن المجتمعات المحلية تعاني السلبية والانسحاب وحالة من الجمود التنموي وتعطيل الطاقات والقدرات والموارد المحلية, وهذا يفوت الفرصة في إيجاد اقتصاد محلي يستجيب لمتطلبات المجتمع المحلي في الحاضر والمستقبل. لذا يتوقع من النظام الجديد أن يكون قناة للتعبير وسبيلا لاستشفاف الرأي العام ومشاركة في صناعة القرار المحلي ومحفزا ودافعا للمواطنين للتداخل في جهود التنمية المحلية ومحركا للموارد وبناء القدرات في المجتمع. إن المرحلة التي نعيشها تتطلب أن تكون أدوار ومسؤوليات المجالس البلدية أكثر شمولية لتتداخل في جميع الموضوعات والقضايا المحلية. القضايا المحلية متشابكة ومعقدة وتستوجب حلولا تتناسب مع طبيعتها الملحة والسريعة, وهذا ما لا تستطيعه الأجهزة المركزية. إن إدارة المدن قطاعيا بحيث يتولى كل جهاز توفير الخدمات باستقلال تام عن القطاعات الأخرى تمثل معضلة وعقبة كؤود أمام تطوير العمل البلدي، إذ إن السياسات القطاعية تفتقد الانسجام والتكامل, وربما بلغت حد التعارض والتضاد, ما يؤثر سلبا في عملية التنمية ويعوق حركتها. المطلوب هو التحول من القرار البيروقراطي إلى القرار النيابي بحيث تكون المجالس البلدية مسؤولة كسلطة تشريعية عن إصدار التشريعات وصياغة السياسات التخطيطية ومن ثم يطلب من البلديات كسلطة تنفيذية الالتزام بها وإنجازها. لقد أدرك الأمير سلمان رائد الإدارة المحلية بحسه السياسي وحنكته الإدارية أهمية العمل الجماعي بين القطاعات المحلية وضرورة التنسيق فيما بينها وأهمية التكامل كشرط أساسي لنجاح جهود التنمية المحلية وتحقيق نقلة حضرية لمدينة الرياض، فعمد إلى تأسيس الهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض لتكون أنموذجا إداريا للإدارة المحلية السعودية، أثبت نجاحه وحقق إنجازا عظيما حوّل الرياض العاصمة إلى مدينة عصرية جذابة في زمن قياسي أذهل الكثيرين. إن تجربة مدينة الرياض الإدارية المميزة تستحق الالتفات إليها وأخذها في الحسبان والاستدلال بها في صياغة النظام الجديد للمجالس البلدية. من هنا قد يكون من المهم ضم رؤساء الأجهزة الحكومية المحلية أعضاء في المجلس البلدي, فهذا يسهم في صياغة خطط وسياسات تنسيقية تكاملية ووضع تصور لمستقبل المدينة ورؤية يراد تحقيقها. إن النظام الجديد للمجالس البلدية بطريقة مباشرة أو غير مباشرة سيسهم في صياغة تصور جديد للإدارة المحلية حتى إن كان لدى بعضهم نظرة ضيقة لدورها لا يتعدى تطوير العمل الإداري داخل الجهاز البلدي كتنظيم بيروقراطي دون ربط القرارات البلدية بتوجهات ومتطلبات السكان الحقيقية وتحديد المشاريع حسب أولوياتهم. لذا كان من الضروري جعل قرار توزيع استخدامات الأراضي بين صناعي وسكني وتجاري وعام, وتحديد اشتراطات المباني, من حق المجلس البلدي ليس للدراسة وإبداء الرأي وتقديم المقترحات وإنما التقرير الإلزامي. توزيع استخدامات الأراضي جوهر العمل البلدي, إذ يتم من خلاله تشكيل المدينة ونشاطاتها وطابعها وتبعا حالة المرور وكفاءتها والكثافة السكانية والآثار الجانبية الإيجابية والسلبية لتداخل الاستخدامات المختلفة. ولا يكون مستساغا ومبررا ألا يكون للمجلس البلدي سلطة التقرير. على الرغم من الجهود المبذولة والمهنية العالية والنوايا الصادقة والشفافية المتناهية التي اتصفت بها إجراءات صياغة النظام الجديد إلا أنه من الضروري التركيز على الأهداف النهائية والغرض الأساسي من تطوير نظام المجالس البلدية وهو إتاحة الفرصة لسكان المدن للمشاركة الحقيقية في صناعة القرار البلدي وتثقيفهم بالعملية السياسية والحلول التوافقية, وحل المشكلات عبر الحوار والطرق النظامية والقانونية، هكذا نضمن إعداد المواطنين لمراحل أكثر تقدما وتحضرا ولأوضاع مستقبلية يكتنفها الغموض وكثير من التحديات والصعوبات الاقتصادية والاجتماعية تتطلب عملا جماعيا, وفي الوقت ذاته سبيل لتعزيز وتجسيد الولاء والوقوف صفا واحدا خلف قيادته السياسية الشرعية التي تحكم بشرع الله وبه تعدل.
إنشرها