default Author

التوفيق بين 70 دولة نجاح لدبلوماسية النفط السعودية

|
مناسبة هذا المقال هو اجتماع منتدى الطاقة الدولي الذي بدأ أعماله أمس في كانكون في المكسيك بمشاركة نحو 70 دولة. وهدف المقال هو إبراز الإنجاز الكبير لدبلوماسية النفط السعودية، التي تتم عادة بعيداً عن الأضواء. لقد جاء هذا الإنجاز نتيجة جهود مضنية، يصعب وصفها في مقالات صحافية. إذا كان التوفيق بين شخصين اختلفا على شيء ما أمرا شاقاً، فما بالك بالتوفيق بين 70 دولة، بعضها لا يمكن حتى لمسؤوليها داخل الدولة الاتفاق مع بعض، وأغلبيتها يتطلب التعامل مع مئات المحامين من دول مختلفة. التوفيق بين هذه الدول كان جزءا من الإنجاز، وإقناع هذه الدول بعدة أمور، تخدم السعودية في النهاية، هو الجزء الآخر من الإنجاز. وسيتم الإعلان عن ''بيان كانكون'' في نهاية الأسبوع، وسيتضمن فقرات تنقل منتدى الطاقة الدولي إلى مرحلة جديدة تشمل عضوية رسمية في المنتدى لنحو 70 دولة، وتفعيل الحوار بين الدول المنتجة والمستهلكة، وزيادة الشفافية في أسواق الطاقة العالمية بسبب موافقة الدول المشاركة على الإفصاح عن البيانات والمعلومات المتعلقة بالطاقة، وتعزيز الدراسات المشتركة في مجال الطاقة وتبادل الآراء والخبرات، ومحاولة التخفيف من التضارب في التوقعات المتعلقة بالطلب على الطاقة وإنتاجها عن طريق الحوار وتبادل وجهات النظر. باختصار، تفعيل المنتدى يعني جمع المسؤولين والخبراء للحوار وتبادل الأفكار والآراء بهدف استقرار أسواق الطاقة وإلغاء الحالات المتطرفة من أسعار منخفضة جداً أو أسعار عالية جداً. منتدى الطاقة الدولي منظمة فريدة من نوعها، لأن عضوية دول ''أوبك'' محددة بصفات معينة، وعضوية وكالة الطاقة الدولية محددة بصفات معينة أيضاً، أما المنتدى فيضم المنتجين والمستهلكين، ويضم دولا مهمة من ناحية الإنتاج والاستهلاك غير موجودة في كلتا المنظمتين مثل الهند والصين. ## المراحل الـ 3 يمكن تقسيم تاريخ المنتدى إلى ثلاث مراحل: المرحلة الأولى مرحلة اللقاءات الدبلوماسية بين الدول المنتجة والمستهلكة دون وجود منتدى رسمي يضم هذه الدول. وتم انعقاد ستة لقاءات لم ينتج عنها شيء، ولم تسهم في استقرار الأسعار التي تذبذبت خلال هذه المرحلة بين سبعة دولارات و41 دولارا للبرميل. كما انخفضت أسعار النفط بين عامي 1992 و1995, ثم ارتفعت بشكل كبير بين عامي 1996 و1997, ثم انخفضت إلى أقل من عشرة دولارات للبرميل في أوائل عام 1999، ثم ارتفعت مرة أخرى إلى نحو 35 دولارا للبرميل في صيف عام 2000. #2# المرحلة الثانية: هي مرحلة التأسيس وبدأت عندما دعا خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز خلال افتتاح منتدى الطاقة الدولي السابع الذي عقد في الرياض عام 2000 م إلى إنشاء الأمانة العامة لمنتدى الطاقة وترحيب الرياض بجعل المقر الدائم فيها. استنتج بعض الخبراء أن خادم الحرمين الشريفين يود وضع النقاط على الحروف، وأن يحدد المسؤوليات، خاصة مسؤوليات الدول المستهلكة التي تهربت منها تاريخيا، بينما استمرت بإلقاء اللوم على الدول المنتجة. كما استنتج بعض الخبراء من هذه الدعوة أنه إذا كان دور الدول المنتجة هو رفع الإنتاج والاستثمار في طاقة إنتاجية فائضة، فإن على الدول المستهلكة أن تقوم بدورها أيضا، وهذا لا يتم إلا إذا تم الحوار بين هذه الدول وجها لوجه، وضمن إطار أكثر رسمية مما مضى. ويستدل هؤلاء الخبراء بأنه عندما أقر منتدى الطاقة في دورته الثامنة في أوساكا مشروع خادم الحرمين، وتم إنشاء المنتدى، ثم تم افتتاح المقر رسميا في أواخر عام 2005، كانت الصعوبة تتمثل في التزام الدول المستهلكة بأهداف المنتدى، وتنصل بعضها منه. ومع وصول أسعار النفط إلى مستويات قياسية في عام 2008، فاجأ خادم الحرمين الشريفين العالم بدعوة الجميع إلى اجتماع في جدة في حزيران (يونيو) لمناقشة أسباب ارتفاع أسعار النفط وطرق معالجتها (المزيد عن اجتماع جدة في الأسفل). وهنا يرى بعض الخبراء أن هذا التصرف يتناغم تماماً مع فكرة تأسيس المنتدى في عام 2000، حيث أراد خادم الحرمين مرة أخرى وضع النقاط على الحروف وتحديد المسؤوليات. ورغم تخوف البعض من عدم استجابة الدول المستهلكة والشركات العالمية للدعوة بسبب الفترة القصيرة بين الدعوة ويوم عقد المؤتمر، إلا أن الحضور كان مفاجأة، حيث حضر كبار المسؤولين في العالم مثل رئيس الوزراء البريطاني ونائب رئيس الوزراء الصيني ورؤساء شركات النفط العالمية ومسؤولون من وكالة الطاقة الدولية و''أوبك''. وكان أهم إنجاز لاجتماع جدة هو تمكن السعودية من انتزاع اعتراف صريح ورسمي من الدول المستهلكة بأن الدول المنتجة للنفط قامت بدورها على أكمل وجه، وأنه على الدول المستهلكة أن تقوم بتغيير سياساتها وقوانينها للحد من المضاربات في أسواق النفط. وبعد اجتماع جدة بنحو ستة أشهر، جاء اجتماع لندن في نهاية عام 2008 لمتابعة ما تم الاتفاق عليه في جدة، ولكنها كانت الأشهر الستة التي تغير فيها العالم: الأزمة المالية ضربت أطنابها في مشارق الأرض ومغاربها، وانخفضت أسعار النفط بأكثر من 100 دولار للبرميل. هذه التغيرات الكبيرة والمفاجئة، غيرت الرؤية تماما. فقبل ستة أشهر كانت الدول المستهلكة تطالب بتخفيض أسعار النفط، ولكن مع انخفاضها إلى نحو 32 دولارا للبرميل وقت الاجتماع، أعلنت الدول المستهلكة أن انخفاض الأسعار مضر بمصلحتها، وقد يؤدي إلى أزمة طاقة في المستقبل لأن انخفاض الأسعار سيخفض الاستثمار في الصناعة، وانخفاض الاستثمار سيخفض الإنتاج في المستقبل، الأمر الذي سينتج عنه ارتفاع كبير في الأسعار، كالتي سادت أثناء انعقاد مؤتمر جدة. هذه القناعة أكدت ما ذكرته القيادة السعودية منذ عام 2000 بضرورة الحوار والتعاون بين الدول المنتجة والمستهلكة لتخفيض ذبذبة الأسعار من جهة، وضمان الإمدادات من جهة أخرى. ونتج عن اجتماع لندن تشكيل لجنة من كبار المسؤولين في الدول المشاركة مهمتها دراسة سبل تطوير منتدى الطاقة العالمي وتفعيله بشكل يمكنه من تحقيق أهدافه، على أن تقدم اللجنة توصياتها للمنتدى في المؤتمر الذي سيعقد في المكسيك في عام 2010. #3# المرحلة الثالثة هي مرحلة التفعيل، وقد بدأت مباشرة بعد انتهاء اجتماع لندن حيث اجتمعت اللجنة، والتي يرأسها الأمير عبد العزيز بن سلمان بن عبد العزيز، مساعد وزير البترول والثروة المعدنية لشؤون البترول، ويشارك فيها مسؤولون من الولايات المتحدة، بريطانيا، فرنسا، ألمانيا، واليابان، ودول نفطية هي النرويج، المكسيك، الجزائر، الكويت، وقطر، عدة مرات، وكلفت عديدا من المتخصصين بإعداد دراسات عن كيفية تفعيل المنتدى لتعزيز الحوار بين منتجي الطاقة ومستهلكيها، وعن أسباب تقلب أسواق الطاقة وكيفية الحفاظ على استقرارها. مرحلة التفعيل هذه مهمة لمنتدى الطاقة، ومهمة جدا بالنسبة للسعودية لأنه حتى الآن ليس هناك عضوية، ولا تتطلب المشاركة في المنتدى طلبا أو اشتراكا، وليس للمنتدى صفة المنظمات الدولية، رغم تعاونه الدائم مع ''أوبك'' ووكالة الطاقة الدولية. كل هذه الأمور ستتغير بعد اجتماع كانكون عندما سيقر وزراء الدول المشاركة توصيات اللجنة باستحداث ميثاق لمنتدى الطاقة الدولي وضرورة الارتقاء بمنتدى الطاقة العالمي إلى مستوى المنظمات العالمية مثل وكالة الطاقة الدولية و''أوبك'' وغيرها. ويتضح من توصيات اللجنة أن العضوية في منتدى الطاقة ستصبح رسمية، وهو أمر لم يكن موجودا من قبل، بما في ذلك دفع رسوم للعضوية. ويرى الخبراء أن التركيز على كلمة ''ميثاق'' كان حلا دبلوماسيا مثالياً لأنه سيضمن موافقة أغلب الدول المشاركة، لأنه لو تم اعتباره معاهدة دولية فإن ذلك يتطلب موافقة الكونجرس الأمريكي والبرلمانات الغربية، والتي قد ترفض المعاهدة في ظل العداء للنفط، أو على الأقل ستؤخر أي اتفاق عالمي فترة طويلة من الزمن. وتضمن تقرير اللجنة عدة توصيات بخصوص التقلبات في أسواق الطاقة أهمها استمرار وتطوير مبادرة بيانات الطاقة وتوسيع نطاقها لتعزيز الشفافية في البيانات والمعلومات، وإيجاد برنامج عمل مشترك بين منتدى الطاقة ووكالة الطاقة الدولية و''أوبك'' يشمل تقارير وتحاليل لتوقعات أسواق الطاقة وتنظيم لقاءات وورش عمل بين الخبراء في هذه المنظمات وغيرها. #4# ## التعاون بين الدول المنتجة والمستهلكة فكرة التعاون بين منتجي سلعة ما ومستهلكيها ليست بالجديدة. فهناك منظمات عديدة تم إنشاؤها خلال الـ 100 عام الماضية لتنظيم أسواق عديد من المواد الأولية مثل القهوة والقصدير والبوكسايت والقمح وغيرها. الجديد في منتدى الطاقة الدولي هو إدراك الدول المنتجة والمستهلكة، نتيجة تجارب مرة، بضرورة الحوار والتعاون. والجديد أيضا في فكرة الحوار والتعاون هذه أنها جاءت من الدول المنتجة، على خلاف المنظمات الأخرى التي نشأت بناء على جهود من الدول المستهلكة. هذا التعاون مبني على تبادل المصالح الذي سيؤدي في النهاية إلى تعظيم منافع الطرفين لأن هذا التعاون لا ينطوي على ''ما يربحه طرف يجب أن يخسره الطرف الآخر''، بل على العكس, فإنه يؤدي إلى ربح الطرفين. هذا التعاون مبني على مبدأ بسيط ولكن له انعكاسات مهمة: الدول المنتجة ترغب في ضمان الأسواق لمنتجاتها النفطية والدول المستهلكة ترغب في ضمان الإمدادات النفطية. بعبارة أخرى، الدول المنتجة مهتمة في تحقيق ''أمن الطلب''، بينما ترغب الدول المستهلكة في تحقيق ''أمن العرض''. المشكلة هي كيفية الجمع بين هذين الهدفين اللذين يظهران بأنهما متعارضان لأول وهلة. ولكن هناك أدراكا لدى الجميع بأن الخطوة الأولى لحل هذه المشكلة هو زيادة الشفافية، وهو أحد الأمور المهمة التي سيركز عليها اجتماع كانكون. إن مشكلة الدول المنتجة ليست انخفاض أسعار النفط واستمرارها على ذلك لفترة طويلة من الزمن. فقد بقيت أسعار النفط منخفضة بين عامي 1928 و1972، ومع ذلك استمرت صناعة النفط بالنمو وتحقيق أرباح ضخمة. كما أن مشكلة الدول المستهلكة ليست باستمرار أسعار النفط المرتفعة. فقد استمرت أسعار النفط في الارتفاع خلال السنوات الأربع الماضية، ومع ذلك لم تتأثر اقتصاديات الدول المستهلكة بأسعار النفط (كساد عام 2009 كان سببه الأزمة المالية). وفي الحقيقة فإن الدول المستهلكة لم تبدأ بالتذمر من الأسعار المرتفعة إلا بعد إعصاري كاترينا وريتا, لماذا؟ لأن هذه الأعاصير جاءت فجأة ودون إنذار. ولو تم توقع ذلك قبل فترة من الزمن لما تأثرت الدول المستهلكة ولما ارتفعت أسعار النفط بهذا الشكل. لذلك فإن المشكلة ليست في الأسعار المرتفعة أو الأسعار المنخفضة، المشكلة في التقلب السريع والمستمر للأسعار الناتج عن انعدام الشفافية ونقص المعلومات. من هذا المنطلق فإن أولى ثمار التعاون بين الدول المنتجة والمستهلكة للنفط هو استقرار أسعار النفط نسبياً وتخفيف تقلباتها. #5# ## الخلافات كبيرة، ولكن لا بد من الحوار الخلاف بين الدول المنتجة للطاقة والدول المستهلكة لها كبير، ومن يركز على هذه الخلافات فقط يستنتج أنه لا فائدة من الحوار. ولكن لو نظرنا للأمر من زاوية أوسع لوجدنا أن أمن الطاقة في الدول المستهلكة مرتبط بشكل كامل بأمن الطاقة في الدول المنتجة، وأن مصالح كل من المجموعتين، في النهاية، واحدة. ولو نظرنا إلى بعض الخلافات نجد أن الدول المنتجة ترى من مصلحتها الحصول على سعر مرتفع نسبيا للنفط، بينما ترى الدول المستهلكة أنه يجب أن يكون أقل من السعر الذي ترغبه الدول المنتجة. وفي الوقت الذي تعتقد فيه الدول المستهلكة أن على الدول المنتجة زيادة الإنتاج، ترى الدول المنتجة أن عليها تخفيض الإنتاج لأسباب عدة، منها الاحتفاظ بمصدر رزق إلى الأجيال المقبلة. وفي الوقت الذي ترى فيه الدول المنتجة أن على الدول المستهلكة تخفيض الضرائب على المشتقات النفطية، ترى حكومات هذه الدول أن هذه الضرائب مهمة لإيرادات الحكومة التي تنفق على المشاريع التي تخدم مواطنيها، الذين ينتخبون هذه الحكومات. لهذا فإن تأسيس المنتدى، رغم هذه الخلافات، وإنجازات ''كانكون''، رغم استمرار هذه الخلافات، يعد إنجازا كبيرا لدبلوماسية النفط السعودية. ## أسباب فشل الحوار تاريخياً هناك عدة أسباب لفشل الحوار الذي تم في الماضي بين الدول المنتجة للنفط والدول المستهلكة له أهمها: 1- عدم التركيز على عامل مشترك كي يتم الاتفاق عليه. فقد كان هدف الدول المستهلكة من الحوار إقناع ''أوبك'' بزيادة الإنتاج، في الوقت الذي هدفت فيه ''أوبك'' إلى إقناع الدول المستهلكة بتخفيض الضرائب على المنتجات النفطية. وقد دلت التصريحات الصحافية التي أصدرتها الأطراف المختلفة على أن ما حصل خلال هذه الاجتماعات في التسعينيات كان أشبه بتبادل الاتهامات أكثر من كونه حواراً بنّاءً قد يؤدي إلى نتائج مهمة. 2- نظرة الدول الصناعية للتجارة الدولية بشكل عام، بما في ذلك النفط. فقد لوحظ في اتفاقيات التجارة الثنائية, واتفاقيات منظمة التجارة العالمية, ومنظمة الاتحاد الأوروبي, ومنظمة النافتا, أن لهجة الحوار اتخذت مفهوماً ''عدوانياً'' رغم الطبيعة السلمية للتجارة الخارجية! وقد لوحظ استخدام عديد من المفاهيم ''الحربية'' في هذه الاتفاقيات مما يدل على العقلية التي تفكر بها هذه الدول. وتشير الاتفاقيات المختلفة إلى أنه تم استخدام عديد من التعابير مثل ''الانتقام'' و''التنازل'' و''لن نتنازل ما لم يتنازلوا'' و''الهدنة'' و''المعاملة بالمثل'' و''مصالح الأمن القومي''. فإذا قامت هذه الدول باستخدام هذه التعابير فيما بينها, ترى كيف سيكون تعاملها مع الدول النامية بشكل عام, ودول ''أوبك'' بشكل خاص؟ وقد وقعت الصحافة العربية في هذا الفخ، حيث نشرت بعض الصحف خبر انتهاء المنتدى في عام 2000 بعنوان ''هدنة بين المنتجين والمستهلكين''! هدنة؟ وهل كانت هناك حرب؟ وهل عقد المنتدى لإجراء ''محادثات سلام'' بين المنتجين والمستهلكين؟ إن هذه العقلية ''العدوانية'' تجعل الحوار عقيماً ومضيعة للوقت. 3- تضارب المصالح بين الدول المستهلكة غير المنتجة للنفط، والدول المستهلكة المنتجة للنفط. قد يكون الحوار أكثر وضوحاً وإيجابية إذا تم بين الدول المنتجة للنفط من جهة, والدول المستهلكة التي لا تنتج النفط من جهة أخرى. ولكن هناك عديدا من الدول المستهلكة التي تنتج النفط بكميات كبيرة مثل الولايات المتحدة وروسيا وبريطانيا والنرويج وأستراليا والصين. ترى هل وقعت ''أوبك'' ضحية اختلاف المصالح بين هاتين المجموعتين؟ وهل سيكون الحوار أكثر نجاحاً إذا قامت ''أوبك'' بالحوار مع كل مجموعة على حدة؟ 4- السمعة السيئة التي تعانيها ''أوبك'' في الغرب. إنه من الصعب أن تقوم حكومات الدول الغربية بالتعاون مع ''أوبك'' بسبب الصورة التي كونتها الشعوب الغربية عن المنظمة والدول الأعضاء خلال الـ 27 سنة الماضية. وقد نجح الإعلام الغربي في ربط صورة بعض البلاد بقادتها. لذلك فإن التعاون مع شعب دولة ما قد يفسر كتعاون مع ذلك القائد، وهذا يفسر لجوء المشاركين إلى الاتفاق على ''ميثاق'' بدلا من ''معاهدة'' دولية كما ذكر سابقاً. ولكن اجتماع ''كانكون''، ورؤية منظميه تختلف عما مضى. فالتركيز تم على نقاط الاتفاق، وعلى استمرار الحوار في الأمور الخلافية بهدف تقريب وجهات النظر. ولم يتم التركيز على ما لا يقع تحت سيطرة المشاركين، بل على ما يقع ضمن سلطتهم القانونية مثل الإفصاح عن بيانات الطاقة والمشاركة في ورشات العمل وتبادل الآراء والخبرات. ولن يتم مطالبة وزير طاقة بتخفيض الضرائب على المشتقات النفطية، وهي من اختصاص وزارة المالية في تلك الدولة وبرلمانها، ولا علاقة لوزير الطاقة بها. ## ما الدور الفعلي لمنتدى الطاقة الدولي؟ ماذا يمكن أن يقوم به المنتدى لتحقيق الأهداف التي أنشئ من أجلها، أو بالأحرى، كيف يمكن للمنتدى أن يحقق عائدا مجزيا للدول المشاركة فيه؟ وكيف يمكن إقناع دول أخرى بالانضمام إليه، وإقناع دول أخرى بعدم الانسحاب منه؟ إن نجاح المنتدى يتمركز حول ثلاثة أمور هي: إيجاد نظرية علمية للتعاون بين الدول المنتجة والمستهلكة، وتحقيق استقرار أسعار النفط، وتميز قاعدة ''جودي'' للبيانات، وأغلب هذه الأمور يتم معالجتها حاليا في اجتماع ''كانكون''. 1- إيجاد نظرية علمية للتعاون بين الدول المنتجة والمستهلكة: إن المشكلة الأساسية التي تواجه المنتدى أنه لا يوجد حتى الآن نظرية علمية واضحة ومدارس فكرية لدعم فكرة التعاون أو رفضها، حيث إن كل ما هناك هو مجرد آراء لمفكرين وسياسيين وخبراء بضرورة التعاون، وهي آراء صحيحة وقيّمة إلا أنها في حاجة إلى نظريات تدعمها. لذلك لا بد من تطوير هذه النظريات والمدارس الفكرية حتى لا تتغير وجهة المنتدى بتغير إدارته أو بتغير الإدارة السياسية في الدول الفاعلة فيه. بعبارة أخرى, وجود هذه النظريات والمدارس الفكرية سيضمن استقلالية المنتدى من جهة، وسيضمن وجود رؤية واضحة من جهة أخرى. وبما أن أغلب موظفي المنتدى من الموظفين الحكوميين في الدول الأعضاء، فإن وجود هذه النظريات والمدارس سيركز جهود هؤلاء الموظفين على الرؤية الأساسية للمنتدى بدلا من تركها لأهوائهم وأهواء حكوماتهم. كما أنه سيمكّن الآخرين من تقويم أداء المنتدى بشكل علمي موضوعي، وفقا للأهداف المبنية على هذه النظريات والمدارس، كما سيمكّن واضعي الموازنة من وضع الموازنة الصحيحة لأنشطة المنتدى بشكل شفاف وواضح يعظم المكاسب من كل ما ينفق، وسيمكن شركات المراقبة المالية من مراقبة الشؤون المالية بسهولة ويسر. قد يكون هناك عدة نظريات حول التعاون بين الدول المنتجة والمستهلكة، إلا أن أهمها هي النظرية التي تركز على ما يمكن أن يقوم به المنتدى، وما يمكن أن يقوم به يتوقف على الأدوات التي يملكها المنتدى لإنجاح هذا التعاون. من هذا المنطلق فإن ''نظرية التعاون'' يجب أن تركز على المصالح المشتركة بين الدول المنتجة والمستهلكة والتي يملك المنتدى أدوات تحقيقها. 2- تحقيق استقرار الأسعار: عندما نتحدث عن التعاون بين الدول المنتجة للنفط والدول المستهلكة له، فإنه من المنطقي أن يتم التركيز على الأمور التي يتفق عليها الطرفان، وأن يتم تفادي نقاط الخلاف، على الأقل على المدى القصير. والشيء الوحيد الذي يتفق عليه الطرفان ويحقق مصالحهما معا هو ليس مستوى أسعار النفط، وإنما ''استقرار أسعار النفط''. فاستقرار أسعار النفط لفترة من الزمن يحقق منافع ضخمة لكلا الطرفين، لأنها تمكن الدول المنتجة من الاستثمار في هذا القطاع وفقا لهذه الأسعار دون خوف من انخفاض الطلب على النفط، كما تمكن الصناعات المختلفة في الدول المستهلكة من التخطيط لاستثماراتها دون الخوف من ارتفاع أسعار النفط أو انخفاضها بشكل كبير. هذا النوع من الاستقرار سيقلل من مستويات المخاطرة، وسيؤدي بالتالي إلى تخفيض مستويات التضخم العالمي، وسيعود ذلك بالنفع على الدول المنتجة والمستهلكة في الوقت نفسه. قد يقول البعض إن دور أوبك هو العمل على ''استقرار الأسعار''، لذلك يجب أن يبقى المنتدى بعيداً عن هذا الموضوع. لكن البيانات تؤكد أنه لا يمكن ليد واحدة أن تصفق. إذا كان هدف التعاون هو ''استقرار الأسعار'' على المدى الطويل، فإن أي تعاون، سواء كان من خلال منتدى الطاقة أو غيره، يجب أن يركز على العوامل التي تسهم في استقرار الأسعار. في هذه الحالة لا بد من معرفة هذه العوامل، ومعرفة ما إذا كان المنتدى يستطيع التحكم في هذه العوامل. تشير الدراسات إلى أن هناك عاملين يتحكمان في استقرار الأسعار أو تقلبها على المدى الطويل هما مستوى المخزون من جهة، ومستوى الطاقة الإنتاجية الفائضة من جهة أخرى. وهناك مستويات معينة من المخزون و الطاقة الفائضة التي تضمن استقرار الأسعار، والتي يمكن للخبراء تحديدها. ارتفاع المخزون بشكل كبير دون وجود طاقة إنتاجية فائضة يمكن تسويقها لن يسهم في استقرار الأسعار، ووجود طاقة إنتاجية فائضة كبيرة دون وجود مخزون كاف لن يسهم في استقرار الأسعار أيضاً. وارتفاع كليهما فوق حدود معينة أو انخفاض كليهما تحت جدود معينة لن يسهم في الاستقرار أيضاً. وبما أن المخزون موجود في الدول المستهلكة، و الطاقة الإنتاجية موجودة في الدول المنتجة، وبما أنه يمكن لهذه الدول التحكم في كل منهما فإنه من الواضح أن هذه الحقيقة يجب أن تكون أساس التعاون بين الدول المنتجة والمستهلكة. من هنا نستنتج أن للتعاون أهمية خاصة لأنه لا يمكن لقوى السوق، في ظل رغبة الحكومات في استقرار الأسعار، أن تضمن وجود هذه المستويات المطلوبة من المخزون والطاقة الإنتاجية الفائضة التي تسهم في استقرار الأسعار. في هذا السياق، سيتركز دور المنتدى على تحفيز الدول ومساعدتها على تحقيق هذه المستويات من المخزون والطاقة الإنتاجية الفائضة عن طريق الدراسات والبحوث والمؤتمرات والنشرات وغيرها، ولكن لن يكون له أي سلطة على إجبار هذه الدول على الاحتفاظ بحجم معين من المخزون، أو بمستوى معين من الطاقة الإنتاجية الفائضة. الفكرة السابقة المتمثلة بهدف ''استقرار الأسعار'' وطرق تحقيق ذلك هي محور نظرية التعاون بين الدول المنتجة والمستهلكة، ومن خلالها يمكن لمنتدى الطاقة الدولي أن يحقق دوره العالمي. إن أي جهود أخرى للمنتدى ما هي إلا جهود ثانوية يمكن أن تقوم بها أي منظمة أخرى. 3- تميز قاعدة البيانات ''جودي'': هناك اتفاق بين الخبراء في جميع أنحاء العالم أن قاعدة بيانات ''جودي'' مازالت قاصرة لدرجة أنها لا تستخدم من قبل الخبراء والمحللين و بيوت المال العالمية، وأنها في أغلبها ما هي إلا نسخة من البيانات التي تنشرها إدارة معلومات الطاقة الأمريكية و''أوبك'' ووكالة الطاقة الدولية بشكل دوري، إضافة إلى بيانات قديمة نوعا ما عن بعض الدول الأخرى مثل الصين والهند. وهناك عديد من الانتقادات التي وجهتها هيئات نفطية متخصصة لقاعدة ''جودي'' لا مجال لذكرها هنا. لكن هناك من يرى أن ''جودي'' هي نموذج لما يمكن أن يؤدي إليه تعاون الدول المنتجة والمستهلكة إذا ما تم تقديم البيانات بشكل آني ودوري. وعلى الرغم من اعتقاد البعض بعدم فائدة ''جودي'' حتى في المستقبل بسبب عدم آنية بياناتها وتكرارها لما يوجد في قواعد البيانات الأخرى، إلا أنني أعتقد أنه يمكن ''إنقاذ'' جودي عن طريق قيام المنتدى، كمنظمة عالمية، بتمييزها عن قواعد البيانات الأخرى عن طريق توحيد المعايير العالمية وبعض التعريفات لبعض المفاهيم النفطية، ثم إعادة حساب البيانات التاريخية وفقا لهذه المعايير. سيتطلب هذا الأمر إضافة عديد من المتخصصين للقيام بهذا العمل، خاصة المتخصصين في مجال الإحصاء، كما يتطلب حملة إعلامية مكثفة للترويج للمنتج الجديد. وإذا كانت الدول المنتجة، بما في ذلك الدول المستهلكة المنتجة للنفط، جادة في موضوع التعاون، فإنه عليهم تقديم معلومات وبينات خاصة بـ ''جودي''، لا تتوافر في قواعد البيانات الأخرى. وتشير المعلومات المتعلقة باجتماع ''كانكون'' أن الهيئة المنظمة تهدف إلى تفعيل قاعدة البيانات وتمييزها، كما تسعى إلى إقناع الدول الأعضاء بضرورة الإفصاح عن البيانات بشكل آني، وإذا ما تم ذلك فعلا فإنه وحده يكفي لنجاح اجتماع ''كانكون''. ## اجتماع جدة لا يمكن الحديث عن منتدى الطاقة دون التطرق لاجتماع جدة في حزيران (يونيو) 2008، وهو أمر ذكر في مقال سابق أثناء الاجتماع. في أوج ارتفاع أسعار النفط، دعت المملكة لاجتماع جدة. لماذا دعت السعودية الدول المنتجة للنفط والمستهلكة له لاجتماع طارئ في جدة في محاولة لكبح جماح أسعار النفط؟ ولماذا أعلنت السعودية زيادة الإنتاج في تلك الفترة، ولماذا أعلنت زيادات جديدة رغم أن أي مبيعات إضافية ستؤدي إلى تراكم الأموال السعودية في الخارج في وقت ينخفض في الدولار ومعدلات الفائدة؟ الجواب بسيط للغاية: لأن السعودية أكبر متضرر في العالم من ارتفاع أسعار النفط بهذا الشكل! ارتفاع أسعار النفط بالشكل الذي رأيناه في منتصف عام 2008 سيقلل الطلب على النفط، وسيزيد إنتاج مصادر الطاقة البديلة وسيشجع دول خارج ''أوبك'' على زيادة الإنتاج. النتيجة الحتمية، لذلك هي انخفاض الأسعار. إضافة إلى ذلك فإن ضخ هذه العوائد الإضافية في الاقتصاد السعودي في ذلك الوقت سيرفع معدلات التضخم إلى مستويات جديدة ويرفع نسبة العمالة الوافدة. قد يحتج البعض بالقول إن ارتفاع أسعار النفط في السنوات الأربعة الماضية لم يؤثر على الطلب ولم يؤد إلى زيادة كبيرة في الإنتاج من خارج دول ''أوبك'' ولم يؤد إلى تطور إنتاج الطاقة البديلة بشكل ملحوظ. هذه الحجة صحيحة نوعا ما، ولكن يجب وضعها ضمن إطارها الصحيح. فهناك فترة طويلة ضمن السنوات الأربع الماضية التي تعد المرة الأولى في التاريخ التي ترتفع فيها أسعار النفط ومعدلات النمو الاقتصادي والإنفاق الحكومي والإنفاق العسكري والادخارات ومعدلات الاستهلاك بشكل كبير، في الوقت الذي انخفضت فيه قيمة الدولار و أسعار الفائدة. ولكن ارتفاع أسعار النفط في منتصف عام 2008 لا يتناسب مع المعادلة السابقة بسبب كمية الارتفاع وسرعته من جهة، ولأن معدلات النمو الاقتصادي بدأت تنخفض. وكانت أسعار النفط ستنخفض حتى دون الأزمة المالية نتيجة هذه التطورات. ## النفط والأجيال القادمة لا شك أن الإصرار على مشاركة الأجيال القادمة في ثروة النفط مبدأ نبيل، ولكن هذا لا يعني بالضرورة تخفيض الإنتاج كما يظن البعض. فما فائدة الحفاظ على النفط في باطن الأرض للأجيال القادمة إذا أصبح هذا النفط لا قيمة له بسبب توافر البدائل الناتج عن ارتفاع أسعار النفط؟ إن مصلحة الأجيال القادمة تتطلب من الدول المنتجة اتباع سياسات تضمن استمرار الطلب على النفط لأطول فترة ممكنة. وبما أن المملكة تمتلك أكبر احتياطيات للنفط في العالم، فإن واجب الحكومة تأمين سوق لهذه الاحتياطيات في المستقبل. إذا كانت مصلحة الأجيال القادمة تفرض علينا تأمين سوق نفطية لهذه الاحتياطات لأطول وقت ممكن، فإن هذا يقتضي أيضاً أن يكون سعر النفط ضمن حدود تضمن تحقيق هذا الهدف. إن خفض الإنتاج وتجاهل الارتفاع الكبير في أسعار النفط لن يحقق هذا الهدف، بل سيؤدي إلى عكسه تماماً. يُجْمعُ الخبراء على أنه ليس من صالح السعودية أن ترتفع الأسعار بشكل كبير لأن ذلك سيحجّم سوق النفط في المستقبل، وقد يلغي دور النفط نهائيا كمصدر أساس للطاقة. لهذا فإنه من صالح الأجيال القادمة أن تقوم المملكة بزيادة الإنتاج و تخفيض الأسعار عما كانت عليه في حزيران (يونيو) 2008 بهدف استمرار الطلب على النفط في المستقبل، حتى لو كان هناك خسائر ضخمة نتيجة انخفاض الدولار وانخفاض العوائد على الاحتياطيات النقدية في الخارج. من هذا المنطلق تنبع أهمية اجتماع جدة: أكثر الدول خسارة على المدى الطويل من ارتفاع أسعار النفط هي السعودية، والسعودية لا تستطيع وحدها السيطرة على الأسعار، لذلك لا بد من التعاون مع الدول الأخرى لكبح جماح الأسعار، ولا بد من زيادة الإنتاج. ولكن هذا المنطق يتطلب أيضاً عقد قمة مماثلة عندما تنخفض أسعار النفط إلى مستويات متدنية، وهو ما حصل في لندن (وإن كان عن طريق الصدفة). ## المصالح الأخرى  السعودية جزء من العالم وعليها أن تفكر وتتصرف بناء على هذا الواقع. لو قامت السعودية بتخفيض الإنتاج بحجة إبقاء النفط للأجيال القادمة، وفكر الهنود بالطريقة نفسها حول الأرز، وفكر السريلانكيون بالطريقة نفسها حول الشاي، وفكر السودانيون بالطريقة نفسها حول القمح، وفكر منتجو الحديد والنحاس والبوكسايت بالطريقة نفسها، ماذا سيحصل لحياتنا اليومية؟ إذا قامت كل الدول الأخرى وطبقت الفكرة نفسها، كيف يمكننا العيش على نفط موجود في باطن الأرض ومليارات الدولارات في أيدينا؟ لنكن واقعيين، قامت بعض محال التجزئة بوقف استيراد الجبنة الدنماركية، فانزعجت الأمهات في البيوت لأنها كانت الأكلة المفضلة للأولاد على الفطور. كل ما علينا هو أن ننظر لمأكلنا وملبسنا لندرك أن المطالبة بتخفيض الإنتاج ورفع أسعار النفط هي ضرب من اللعب بالعواطف، بعيدا عن المنطق والواقع. وبكل صراحة أقول لكل من ينادي بتخفيض الإنتاج ورفع أسعار النفط وتجاهل الدول المستهلكة: تأكد أن ما تلبسه وتأكله وتركبه وكل الأدوية وأدوات الجراحة منتج في السعودية قبل أن تطالب بتجاهل الآخرين. من هنا تنبع أهمية أخرى لاجتماع جدة: ففي الوقت الذي ستركز فيه وسائل الإعلام السعودية على أثر الاجتماع في ''الأجانب''، فإن للاجتماع أثر داخلي يكمن في تأكيد الحكومة السعودية للسعوديين والمقيمين أن السعودية جزء بسيط من هذا العالم، ولا يمكن لأحد أن يعيش بمفرده. خلاصة الأمر: أنه إذا كان إقناع صديقك بوجهة نظرك يعد نجاحا، فما بالك بإقناع عدد كبير ممن كانوا أعداءك بوجهة نظرك؟ من هذا المنطلق فإن منتدى الطاقة بشكل عام، و''بيان كانكون'' بشكل خاص، إنجاز كبير لدبلوماسية النفط السعودية، ومفخرة لأبناء البلد ومحبيه.
إنشرها