Author

اللغة العربية .. تشكو عقوق أبنائها!

|
أصدر مجلس الوزراء الإثنين الماضي الموافق 6 ربيع الآخر قرارا مهما يقضي بإنشاء مركز الملك عبد الله بن عبد العزيز الدولي لخدمة اللغة العربية, ومن ضمن أهداف المركز المعلنة إيجاد البيئة اللازمة لتطوير وترسيخ اللغة العربية ونشرها, ووضع المصطلحات العلمية واللغوية والأدبية, والعمل على توحيدها ونشرها. ويأتي إنشاء المركز في وقت أصبحت فيه اللغة العربية غريبة في عقر دارها, رغم وجود مجامع اللغة العربية القائمة منذ عقود, في بعض العواصم العربية التي يبدو أنها, أي المجامع, قد ضعفت واستكانت أمام ما تواجهه اللغة العربية من إنكار وتجاهل, ومسخ أحيانا, ليس من عامة الناس فحسب, بل من المتخصصين والمؤهلين في دور العلم والجامعات والمثقفين, الذين كثيرا ما يحلو لهم حشر التعبيرات والجمل الأجنبية أثناء أحاديثهم, وحتى مشاركاتهم في المؤتمرات العلمية والأدبية, وكأن اللغة العربية عاجزة عن توفير المصطلحات. ويعد من مظاهر التجاهل الذي تعانيه لغتنا العربية ما يلي بيانه: 1 ـ كثر في الزمن الحالي ظهور الكتب والمطبوعات التي تستخدم اللغة العامية, بديلا عن العربية الفصحى, سواء كانت شعرا أو قصصا أو روايات, أو حتى محاولات محسوبة على الأدب من الناشئين!واستشرت هذه الظاهرة حتى طغت على الأسماء التجارية وصيغ الإعلانات وكتب الدعاية وظهرت قنوات تلفزيونية كثيرة تصوغ جميع موادها باللغة العامية, وبلهجات إقليمية تنشر التعصب والقبلية. 2 ـ مع توافد الملايين من الأجانب وتغلغلهم داخل المنازل كخدم وسائقين بلغات متعددة, أصبحنا نعتمد عليهم في تربية أبنائنا واحتضانهم, أكثر مما نفعل نحن, ويأتي من ضمن ذلك بداية تعلمهم الكلام واللغة على أيديهم وألسنتهم الأعجمية, بحيث يكبر الطفل ويتعلم اللغة العربية بطريقة مشوهة, بل مشوشة لا يدري معها ما اللغة التي يجب عليه أن يتعلمها ويستعملها! كيف لا, ونحن الآباء والأمهات نكسر ألسنتنا ونلويها في اغتيال واضح للغتنا عند الحديث مع أولئك القوم, على مرأى من أبنائنا! 3 ـ ضعف الرابطة بين أمرين لا انفصال لهما, في رأيي على الأقل, وهما اللغة العربية من جهة والانتماء الوطني والديني من جهة أخرى, فاللغة العربية هي لغة القرآن, ولولا استحقاقها التشريف والتكريم ما اختارها الله لغة لكتابه المقدس, ومن المعروف, كقاعدة دينية, أن ما لا يصح الواجب إلا به فهو واجب, إذاً فتعلم اللغة العربية, بل إتقانها, يعد واجبا دينيا, وهو السبيل الوحيد لممارسة العبادات والشعائر الدينية على الوجه الذي أمر الله به. 4 ـ لقد ازداد حرص الآباء والأمهات في العصر الحاضر على تعليم أبنائهم اللغات الأجنبية, والإنجليزية هي الغالبة, من بداية تعلمهم الكلام, بدءا من استعانتهم بمربيات لا يتقنّ سوى لغة بلادهن, ثم إلحاقهم من سن الحضانة أو الروضة, بمدارس أجنبية لا تضم سوى أبناء أجانب يدرسون فيها المواد بلغة أجنبية, وذلك رغم علمهم بخطورة ذلك على وضع أبنائهم, بل على حالتهم النفسية, حيث يؤكد كثير من علماء النفس والمتخصصين في تربية الأطفال أن تعلم الطفل لغة غير لغته الأم واعتماده عليها في سنواته الأولى قبل أن يتعلم لغته, خطأ كبير يؤثر في ملكاته اللغوية والفكرية فيما بعد! 5 ـ من المثير للاستغراب أن الدول العربية في عصور الظلام والاستعمار, كانت حريصة على اللغة العربية وتمكينها في نفوس أبنائها, وكنا وما زلنا نلمس ذلك في مؤلفات تلك العصور, والآن وبعد زوال الاستعمار, بتنا نعاني ضعفا شديدا في إتقان واستخدام لغتنا الأساسية بين أبنائنا, وأصبح التباهي بإتقان لغة غيرها أمرا عاديا, على أننا لا نعترض على تعلم أي لغة أجنبية, فذلك مما دعينا إليه, كما في القول المأثور ''من تعلم لغة قوم أمن مكرهم'', لكننا لا نريد أن يكون ذلك وسيلة لإهمال لغتنا والتنكر لها. 6 ـ قد لا يعرف البعض أن المملكة كانت, وما زالت حريصة على إعزاز اللغة العربية ونشرها, والتمسك بها كلغة مخاطبة ومكاتبة, وأنه سبق أن صدرت تعليمات مشددة بأن تكون اللغة العربية هي لغة الخطابات المتبادلة بين الشركات التي تعمل داخل المملكة, بيد أن عدم وجود جهة مسؤولة عن المتابعة أضعف التقيد بذلك. وبعد: فلا شك أن خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز قد استشعر أهمية المحافظة على اللغة العربية وحمايتها من التشويه والإهمال اللذين تتعرض لهما, ودعم انتشارها وتصحيح ما أدخل عليها من تعريفات ومصطلحات ليست منها, وما من شك في أنه سيكون للمركز المقرر قيامه شأو كبير في ذلك, ونأمل أن يكون أول ما يلتفت إليه هي الآتي: 1 ـ التفكير في تطوير مناهج تعليم اللغة العربية وطرق تدريسها, بما في ذلك من يعهد إليهم بتعليمها, فالملاحظ أن الكتب المقررة لا تغري الطلاب, خاصة في الصفوف الأولى, بالإقبال والتشويق, وتخلو من المتعة والتحفيز, خاصة إذا قارناها بكتب تعليم اللغات الأخرى, والطلبة, قبل المعلمين, يسأمون من تكرار ترديد الفاعل والمفعول, وجمل شهيرة أمثال (ضرب زيد عمرو), ومعظم موضوعات المنهج وما يحويه من أمثلة واستشهادات كلها جامدة منذ أن عرفناها ولم يطرأ عليها أي تطوير أو تحسين يسهم في فتح شهية الشباب لتعلمها وإتقانها, دون أن يؤثر ذلك في اللغة ذاتها, بل يزيدها حلاوة ورونقا وتذوقا. 2 ـ إن الرسوم الكرتونية المدبلجة باللغة العربية تعد من أهم الوسائل لتعلم اللغة العربية وإتقانها لدى الأطفال, كما هو مشاهد من إقبالهم على ما يعرض منها في بعض القنوات التلفزيونية واستفادتهم منه في تقويم ألسنتهم, وتعويد آذانهم على النطق السليم لمفردات الكلام, وتقليدهم له, والمرجو هو الاهتمام بهذا المصدر الجيد من قبل المركز بعد قيامه على مستوى الوطن العربي. 3 ـ من الأهمية أن يقوم المركز بإنشاء معاهد لتعليم اللغة العربية للأجانب عنها, القادمين للعمل في المملكة, بالحد الذي يلزمهم للتعامل والتخاطب ومعرفة حدود التزاماتهم وفهمهم قواعد الآداب والسلوك, واحترام أنظمة البلد, وهناك دول تشترط على المقيمين فيها تعلم لغاتها كأحد أسباب التعايش والاحترام. والله من وراء القصد.
إنشرها