Author

مشكلة النقل العام داخل المدن .. لا يليق أن تبقى دون حل!

|
من المستغرب أن يبقى وضع النقل العام للركاب في المملكة مهملا, وكأنه لا يهم أحدا من المسؤولين, وهم يجوبون شوارع المدن يوميا, ويرون المشكلات الناجمة عن عدم وجود نقل عام منظم تتراكم أمام أعينهم, بل يعانونها على المستوى الشخصي, مثلما تعانيها البلاد على المستويات كافة! بل إنهم يسافرون ويرون وسائل النقل المنظم في الدول الأخرى كيف تعمل, ويلمسون الدور الذي تقوم به في خدمة السكان, سواء كانوا مواطنين أو وافدين أو سائحين, ولا يدفعهم ذلك إلى تحريك مشكلة النقل العام, ودفعها في اتجاه الحل وإعادة التنظيم! إن المقصود هنا هو نقل الركاب داخل المدن في وسائل نقل جماعية, أي الحافلات النظيفة المنتظمة, التي تصل إلى أطراف المدن, ومن هذا المفهوم فإن أي وسيلة نقل جزئية أخرى, مثل سيارات الأجرة, أو الحافلات الخاصة, مثلما هو موجود في بعض المدن في المملكة, لا يشملها مفهوم النقل العام, لأنها لا تغطي إلا الأجزاء المربحة في أوقات محددة, ومن هنا نستطيع القول إن مدن المملكة كافة تفتقر إلى وجود النقل العام بمفهومه المتعارف عليه. وغياب النقل العام لا تقتصر أضراره على المفترض استفادتهم منه, بل تتعدى ذلك إلى نشوء مشكلات خطيرة يعم ضررها البلاد والعباد, مثل: 1 ـ تكدس السيارات الخاصة, واختناق المدن بها, نظرا لاضطرار الناس إلى تملك السيارات كوسيلة نقل لا بديل عنها, وهو ما نشاهده في المملكة, حيث يزيد استخدام السيارات بمعدل نصف مليون سيارة سنويا. 2 ـ كثرة حوادث السيارات في المملكة, وهو ما جعلها من أكثر الدول في نسب الحوادث, وما ينجم عن ذلك من وفيات وإصابات بشرية, أحالت فئة من السكان إلى مقعدين, وجعلتهم عالة على أهاليهم وعلى المجتمع, فضلا عن الخسارة الناجمة عن تلف السيارات, المتمثلة في استبدالها أو إصلاحها, إضافة إلى سرعة استهلاك الطرق وزيادة ما يصرف على صيانتها وتجديدها. 3 ـ زيادة التلوث البيئي, بما تنفثه عوادم السيارات من سموم قاتلة, وما يسببه ذلك من أمراض دائمة لفئة من السكان, وما يكلفه علاجهم من مبالغ طائلة تتحملها الدولة, أو يتحملها الناس أنفسهم. ومن ثم فإن أكبر مستفيد من وجود النقل العام هو الدولة ذاتها, ولهذا نرى الدول الأخرى, بما فيها الفقيرة تهتم بموضوع النقل العام وتوليه عناية كبيرة, من حيث التنظيم والرعاية وتقديم الإعانة للفوائد الكبيرة التي تجنيها من وجوده, وفق ما تمت الإشارة إليه. ولعل من المفيد أن نلقي نظرة سريعة على خلفية النقل العام في المملكة, والسبب فيما آل إليه الوضع من سوء, فامتياز النقل العام داخل المدن ممنوح للشركة السعودية للنقل الجماعي (شركة مساهمة عامة), وكانت الدولة تقدم لها إعانة تضمن لها نسبة من الأرباح, ثم قام نزاع بين الحكومة والشركة, على خلفية استمرار الحافلات الخاصة في ممارسة عملية النقل, وادعاء الشركة قيام تلك الحافلات باختطاف الركاب من داخل محطاتها وخطوطها ذات الكثافة العالية, وعدم قيام الحكومة بتمكينها من عقد الامتياز الممنوح لها, وشيئا فشيئا انسحبت الشركة من داخل المدن, ولا سيما بعد إيقاف الإعانة التي كانت تقدم لها, واكتفت بالتركيز على النقل بين المدن, وعلى عقود النقل المدرسي التي رأتها مربحة, أي أن الشركة رأت نفسها في حل من تسيير خطوط غير مربحة, طالما أنها لا تحصل على الإعانة. والوضع الآن يبدو معقدا, حيث أوشك التمديد الذي منح للشركة في عقد الامتياز ومقداره خمس سنوات, بموجب قرار من مجلس الوزراء على الانتهاء, دون أن يحدد مصير عقد الامتياز بعد ذلك, أو تعرف الشركة وضعها, وهو ما أثر في وضع الشركة وفي مساهميها, وجعل قيمة أسهمها تنزل إلى ما دون القيمة الاسمية لها, ولم تطرح الحكومة حلا لمشكلة النقل يكون بديلا للامتياز الممنوح للشركة بعد انتهاء التمديد! ويبدو الأمر وكأنه لا يهم أحدا غير من لا يملكون الحل, أمثالي, ومع ذلك يلحون في طرق الأبواب وطرح الأفكار, لعل أحدا يسمعها ممن تعنيهم, لكن المشكلة أنه لم يعد بالإمكان الانتظار (كما قال سمو أمين منطقة الرياض: فالزحام سيكون أقسى وأمر خلال السنتين القادمتين, واستخدام الطرق أصبح يتم بأكثر من طاقتها) (صحيفة ''الجزيرة'' 17/3/1431هـ), وكلام رجل مثل الأمين له قيمته, وهو يعكس الإحساس بما يشاهده, وهو أكثر المسؤولين قربا من الوضع بحكم عمله, رغم أن مسؤولية تنظيم النقل العام لا تقع على الأمانات, إلا بقدر علاقتها بالخدمات, وكونها جزءا منها! بعد أن فشلت الشركة المساهمة التي قامت من أجل التكفل بالنقل العام, وفشلت قبلها شركة سابقة لها, فإنه لا يوجد إلا فتح المجال للمنافسة بين شركات تؤهل مسبقا, على مستوى مناطق المملكة, نظرا لاتساع رقعة المملكة وكثرة عدد السكان والمقيمين فيها, واستحالة أن تقوم شركة واحدة بالمهمة, على أن تكون هناك شركة في كل منطقة تشمل خدماتها المدن والمحافظات والمراكز, التي تنعدم فيها أي وسيلة للنقل العام حاليا, وتلتزم بتسيير خطوط منتظمة للنقل تشمل المناطق السكنية كافة, وتضم أنواعا مختلفة من الحافلات لتسييرها وفق الاحتياج والحركة والكثافة, ولا ننسى أنه يجب أن تقدم لها إعانة من الدولة لضمان وصول خدماتها إلى المناطق كافة, بأسعار منخفضة, كما هو الوضع في الدول الأخرى .. وهكذا, فإن امتياز النقل الداخلي يجب أن يتم منحه وفقا للعقود التي تبرم مع الشركات على أساس المناطق, لحمايتها من المنافسة غير المتكافئة أو التعديات على حقوقها, وأما النقل بين المدن على مستوى المملكة, فيفتح للمنافسة بين الشركات ذاتها التي تتولى عملية النقل في المناطق وفق شروط وضوابط معينة, تضمن توافر وسائل السلامة والأمان والانتظام في وسائل النقل, والمهم في الأمر كله أنه لا يليق أن تبقى هذه المشكلة دون حل, رغم الإمكانات والثروات التي تنعم بها المملكة, ونبقى نحن نلوك قول الشاعر: ولم أر في عيوب الناس عيبا كنقص القادرين على التمام والله من وراء القصد. 4
إنشرها