Author

عبد الرزاق الرجلُ الطائر

|
* * { فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } (46) سورة الحج. .. من أعظم الشخصيات التي تغير مسارَ تاريخ الممرات الإنسانية هم من نسميهم بالمعوقين، فإذا هم يجرّون العربة الإنسانية فراسخ للأمام في طريق الضوء المعرفي والحضاري والإنجازي بأنواعه.. وأحدثكم عن صديقي الأعمى، الكفيف إن شئت، ليست المرة الأولى التي أتحدث عنه ولن تكون الأخيرة. وهو ليس وحيدا في صفته فكثيرٌ مثله، ولكنه رمزٌ لرموز، دليل على استدلال، توثيق لاستشهاد، وإثبات لمجرى الحقيقة.. ولأنه بيننا، كل يوم له عمل، وكل يوم له إنجاز.. وكل يوم سيرفع على من يعرف ومن لا يعرف الهاتفَ مراراً وتكرارا إن أراد شيئا لأعماله التي تتصل بالآخرين.. وتأكد لن يتركهم إلا وقد أخذ غايته، وبسمته تشع بالغنيمة. أقدم لكم صديقي: عبد الرزاق. ..طارت الأنباءُ بأن كتاب «جينيس» للأرقام القياسية سيظهر رقما قياسيا جديدا، هذا أول ما طرأ عليّ وأنا أدخلُ مكتبَ الأخ عبد الرزاق بن علي التركي. يحرص رجالُ الأعمال والمديرون على التصميم الداخلي لمكاتبهم بأجود أخشاب المهوقني، أو أروع اللوحاتِ الأصليةِ، أو ما يدثـِّرُ الجدرانَ من الأقمشةِ الفارهة، حين لم أرَ ولا مليمترا واحدا من الجدران الأربعة لمكتب عبد الرزاق التركي، نعم ولا مليمترا، ولم أعرف ما لونَ الجدار. على الجدران من أعلاها لأخمصِها، وعلى الرفوف، وداخل الصناديق الزجاجية وعلى الطاولة شهاداتُ تقديرٍ وإنجازٍ معلقة.. شيءٌ يذهلُ العينَ، وكأنك دخلت متحفَ الكريستال حيث ينعكسُ ويتلونُ ويتفرّعُ ويثورُ الضوءُ في مسابقةٍ مهيبةٍ في مضمار الإنجاز. في مكتب التركي يقفز النظرُ والعقلُ من شهادةٍ إلى شهادة.. وهي شهاداتٌ تكاد تكون من جهاتِ العالم الأربع.. وهنا طرأ عليّ كتابَ جينيس، لا أظن أن مكتباً عربياً في امتداد الوطن العربي يختال بهذا العدد من الشهادات، وربما لا مسؤول أو عامل في قطاع خاص عنده كل ذاك المخزون والمعروض من الشهادات.. من أجل عملِهِ، من أجل إنجازاتِهِ.. لا من أجل قدْرهِ أو منصبـِه أو هيبتـِه. هذا الرجلُ.. أعمى. أعمى؟.. نعم. ولقد ضمّ عبد الرزاق عمَاه، وأخذه معه في رحلةِ النجاح المدهش.. في رحلة إنجاز خلابة، قد تكون واحدة من أكثر الحيوات إثارة وإدهاشا ومثارا للإعجاب. هناك نوعان من البشر، نوعٌ هم أكثرُ سكّان الأرض، لو أصابتهم مشكلة،ٌ أو حطـَّتْ عليهم عاهة،ٌ أو لازمَتهم إعاقة،ُ أثقلتْ مشيـَهم على أديم الأرض، لأنهم حملوه ثقلاً، فأربك مسيرتهم في ممرات الحياة. ونوعٌ كالطيور يطير، وهم قـِلـَّة.. نوع ٌمن البشر لهم تكوينـُنا التشريحي، ولكنهم يختلفون عنا بقوةِ إرادة، وصلادة تصميم، فتصير كل إعاقةٍ ريشاً بجناح.. فإذا الواحد منهم يخفق جناحاه ليطيرا به لمعارج الإنجاز والتفرد.. فبينما يعاني ويضعف صراعهم مع تحديات الحياة أولئك الذين يمشون ويحملون معهم أثقالا من متاعبهم البدنية أو الظرفية.. يتفوق البشرُ الطائرون لأنهم يضمون إعاقاتهم ويدمجونها بتكوين جناحَي الطيران، فإذا هي ريشة جديدة أو ريشتان تقويّان قوادم وأطراف الأجنحة ليضربا في تيار الأهوية ويرتفعان في شواهق الأجواء.. ولم أرَ إنسانا طائرا قريبا يضم إعاقته لنجاحه مثل عبد الرزاق التركي. نعم الرجل أعمى.. ولكنه من الناس الذين تراهن على ابتسامتهم، لأنها لا تغيب، وهو أعمى، ولكن احذر من فطنة الذكاء التي مثل رشةِ عطرٍ حادة تباغتكَ في عينيك.. إنه الرجل الذي يعتني بمظاهر الأناقة والجمال والنظافة بإيقاع مغالٍ وكأنه ليس مبصرا فقط، بل يحمل منظاراً يكبِّرُ ذرات الغبار.. دائماً مفرط الأناقة، وقشيب المظهر، ويمسح معدنَ سيارته بإصبعه ليرى إن كانت لامعة كما يجب، ويتحسس مرزام غترته، لو اعتراه ميلٌ مجهري لغيرها برديفةٍ في دولابٍ يختبئ بكتبه وراء الأوسمة.. إنه الأعمى الذي يديرُ الأعمالَ، والذي يرأس مجموعاتٍ نشطة من الجمعيات المهارية والاجتماعية، إنه الأعمى الذي دخل مناشط اجتماعية تطويرية وبرع فيها وأضاف إليها. إنه الأعمى الذي تفوق في جامعاتٍ أمريكية ونال فيها تفوقا بدرجة الشرف في البكالوريوس ثم الماجستير بالفنون، إنه السعودي الذي حمل شهادة «المواطن الذهبي» من منطقة أمريكية.. والذي اختاره مركز «السيَر الشخصية بكامبردج» رجل عام 2000-2001، وكرمته هيئات العالم ابتداء من الأمم المتحدة، ولن تنتهي التكريماتُ والإنجازاتُ إلا أن توقفَ عن لمس سطح سيارتِه، أو عن تلمَّس مرزامِه، أو اختفتْ ابتسامته.. أعمى لا يعرفُ اليأسَ، وهذه الصفة مقلقة لمن يعرفه مثلي،لأنه يريدنا أن نكون مثله، بطاقته وبطلباته من أجل أعماله الإنسانية.. ثم يضحك علينا في سره، وأحياناً علـَنا متى أخذ ما أراد.. لأنه يعرف أننا لا نطير. عبد الرزاق التركي الرجل الذي رحلَ بصرُه، وبقي قلبه في مكانِه الصحيح، واعتلى عقلـُه مقامَهُ الصحيح.. إنه رجلٌ يثبت أن كل ما يقدر البارئُ هو خير، ويثبت أن هذا الخيرَ يسكن في قلوب المؤمنين، وأن الحقَّ في قلوب العارفين، والجمالَ في قلوبِ المحبين.. وكلها تستضيء بنور الله.
إنشرها