Author

هندسة المجتمع والثقافة جينيا..!

|
كل مجتمع في الدنيا يحتاج إلى التغيير، وحتى المجتمع الفاضل الكامل (وهذا موجود نظريا فقط) يحتاج إلى التغيير حتى يواكب التحولات الكونية بأنواعها. تغيير المجتمع قد يحصل بقوة صاحب القرار (عبر القوانين والأنظمة)، وقد يحصل بتغيير الثقافة التي تمثل مجموع ''مكونات'' ما يؤمن به مجموعة الناس ويمارسونه، وجميع أشكال التعبير عن تلك ''المكونات'' في حياتهم اليومية وعبر نتاجهم الإبداعي وردود أفعالهم نحو الأحداث. هناك نظريات كثيرة حول كيفية تغيير ثقافة أمة أو مجتمع ما، ولكن نظريتي المفضلة هي تلك التي تشبه ذلك التغيير بالهندسة الجينية. الهندسة الجينية تقوم في أساسها على عزل جين معين وإحداث عملية ''تحول'' لذلك الجين بما في ذلك إدخال مكونات جينية جديدة ضمن عملية التحول. هندسة الثقافة جينيا تقوم على المبدأ نفسه، حيث يتم البحث عن المكون الثقافي الذي يسبب المشكلة، ثم التخطيط لكيفية تغييره وتنفيذ تلك الخطة عبر برامج يتم تقييمها بعد تنفيذها وتطويرها بناء على هذا التقييم حتى تحقق الأهداف المبتغاة من ذلك. المشكلة في تغيير المجتمع أن كل عنصر من عناصر ثقافته يرتبط بعناصر أخرى قد تتأثر بتغييره، وقد يترك هذا ''تأثيرات جانبية'' غير مرغوبة في المجتمع وثقافته بشكل عام، ولذا فإن الشرط الأساسي لتطبيق مبادئ هندسة الثقافة جينيا هو وجود كمية ضخمة من الأبحاث العلمية التي تدرس المجتمع وثقافته وتحاول فهمه وتفاصيل مشكلاته والمكونات الثقافية التي تسبب تلك المشكلات، حتى يمكن الاعتماد عليها في هندسة التغيير. لو أخذت مشكلة مثل ''ضعف القدرة على الحوار البناء مع الآخر'' فإنك تحتاج إلى برامج بحثية اجتماعية مكثفة لفهم أسباب تلك المشكلة في ثقافة المجتمع، أو بكلمات أخرى، ما الأفكار والعادات والرؤى والعوامل النفسية التي تجعل الناس في مجتمع ما غير قادرين على التعامل مع الآخر بالشكل الإيجابي البناء، والجذور العميقة لهذه الأفكار حتى يمكن بعد ذلك بناء برامج التغيير القادرة على إحداث التأثير المطلوب على المديين القصير والطويل. أكثر الدول التي تحتاج إلى التغيير هي الدول النامية عموما، لأن بعض الأفكار والعادات هي التي جعلت الناس في أي من تلك الدول غير قادرين على مواكبة التطورات في العالم والمنافسة على التميز وبناء الاقتصاد والنظم التي يضعها في مقدمة الدول، ولذا فإن الدول النامية هي أكثر من يحتاج إلى الأبحاث الاجتماعية التي تعمل ضمن برامج واضحة الأهداف والخطط والمناهج. أحد الباحثين يقول إن كثيرا من المشكلات التي تعانيها الأمم والمجتمعات تأتي من القيم المغروسة في اللاوعي. باختصار، هناك قيم تعيش في الوعي، بمعنى أن الإنسان قادر على التعبير عنها وفهمها وإعلانها، وهناك قيم في اللاوعي، حيث يؤمن بها الإنسان دون أن يعلم وتحكم تصرفاته وسلوكياته، ولو سُئل عنها لربما أنكرها واعتبرها غير مقبولة، وإن كان يطبقها في الحقيقة. إن واحدا من أجمل قصص هندسة التغيير الحديثة هي تلك المرتبطة بالبرامج التي حاربت العنصرية العرقية حول العالم (في أمريكا وغيرها)، حيث كان كثير من الناس يمارس العنصرية ضد السود على أساس أن السود شعوب غير منتجة عمليا أو أن الجرائم تكثر بينها وغير ذلك من المبررات، ولكن القيم الحقيقة المستقرة في اللاوعي هي الشعور العميق بأن البيض أفضل من السود في هيئتهم وذكائهم ومكونات شخصياتهم. لقد كان علاج المشكلة عبر عدة عقود من الزمن (والذي انتهى بنجاح هائل يدل عليه انتخاب أوباما رئيسا لأمريكا) هو العمل على أن يخرج هذا الإيمان من اللاوعي إلى الوعي، ثم مواجهة هذه الفكرة السلبية بالإحصاءات والمعلومات والتحليل الذي قتلها تدريجيا واستبدلها بقيمة أخرى تقوم على تقدير الإنسان أيا كان لونه وعرقه. هناك طبعا عوامل ضخمة في تغيير الثقافات الإنسانية والمجتمعات، فبينما هناك نظريات تربط التغيير بالاقتصاد بشكل رئيس، يأتي هنتجتون مثلا ليربط التغيير بالمدنية والتعليم والتعبئة الاجتماعية والتطور الاقتصادي والتطور السياسي. في كل الأحوال، التغيير يحصل باستمرار شاءت الأمم أم أبت، وإذا أرادت أمة ما أن تترك نفسها لرياح التغيير فعليها أن تتوقع ذهاب السفينة في أي اتجاه، إلى القمة أو إلى الهاوية، ولكن التحكم في عملية التغيير يضمن إلى نسبة كبيرة ذهاب المجتمع في الاتجاه الصحيح، وهو بالتأكيد ما تحتاج إليه المجتمعات العربية. أعرف أن معظم ما سبق كلام نظري بحت، ولكن حصيلته سهلة: نحتاج إلى مراكز للأبحاث تهتم بالفهم العميق لثقافة المجتمع، حتى يمكن بناء برامج تغيير فاعلة وقادرة على أخذنا نحو الاتجاه الصحيح.
إنشرها