الجنائية الدولية بين البشير وجولدستون
في الثالث من شباط (فبراير) الجاري شعر المدعى العام للمحكمة الجنائية الدولية بالانتصار بعد أن استجابت الدائرة الاستئنافية في المحكمة لطلبه الذي رفض في الرابع من آذار (مارس) 2009 لعدم كفاية الوثائق والأدلة، وهو إضافة جريمة الإبادة الجماعية إلى مجموع الجرائم المنسوبة للرئيس السوداني عمر البشير.
والحق أن إعادة فتح ملف البشير تثير ملاحظات مهمة أولها أن لويس أوكامبو المدعى العام بدا وكأنه حريص على تأصيل جريمة الإبادة بعد توجيه تهمتي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، وبلغ الرجل من دأبه أنه حول القضية إلى مسألة أخرى استخدم فيها الحرب النفسية والإعلام العربي والدولي. ولم يقتنع أوكامبو بأن القضية برمتها تفتقر إلى الأسانيد القانونية الصحيحة، كما أن جمع الأدلة تم من خصوم الحكومة في دارفور. ويلحظ الرجل أنه يلح على أمر ليس مألوفاً، حتى لو صح الاتهام، في العلاقات الدولية، كما يبدو أنه لم يقرأ جيداً الموقف الحاسم العربي والإسلامي والدولي الداعم للسودان والباحث عن حل لمشاكله وإقرار سلامه، كما يبدو أن الرجل في حاجة إلى حس سياسي ليدرك أن السلام مقدم العدل في أحوال التمرد الذي تدعمه جهات أخرى.
بل لعله جدد خطه القديم الذي تحداه الرئيس البشير ولم يفسر لنفسه حتى الآن سبب سفر البشير في كل العواصم المجاورة حسب برنامجه المعتاد دون أن ينازعه أحد. وربما يقصد إفشال جهود المصالحة بين الحكومة والتمرد، وربما الإضرار بالبشير في الداخل.
الملاحظة الثانية، وهي أنه إذا كان المدعى العام مهموماً بجرائم نسبها إلى البشير في دارفور ولم يقم الدليل على أن الادعاءات جدية وأن مصادر المعلومات غير مطمئنة، فلماذا تجاهل تقرير جولدستون، وهو يعلم جيداً مدى مصداقيته وأنه أحيل إليه ضمن توصيات التقرير؟ ولا حاجة إلى الإحالة بعد ذلك من جانب مجلس الأمن أو الجمعية العامة رغم أن التقرير أوصى أيضاً بذلك. لماذا لا يعطي أوكامبو نفسه فرصة، إذا افترضنا أنه يجري وراء الحقيقة، لكي يقارن بين مصادر معلوماته لاتهام البشير، وبين مصداقية تقرير جولدستون، ولماذا تجاهل نص المادة (15) من نظام روما الذي أنشأ المحكمة والذي ألزم المدعي بأن يبدأ التحقيق في الملفات التي تبدو للوهلة الأولى أنها جدية ويمكن أن تؤدي إلى فتح ملف جنائي. فهل وجد في ملفات التمرد ومواقع المنظمات الإنسانية التي طردها السودان لشبهة فيها وفي عملها ما يبرر التحقيق أكثر مما وجد في تقرير جولدستون الذي تهتدي به الآن جميع المحاكم في العالم كله، وتدخل قطعاً في اختصاص المحكمة الجنائية الدولية؟
الملاحظة الثالثة، تتعلق بمدى مصداقية محكمة الجنايات الدولية وموقفها من ضحايا العراق ودعاواهم وردودها والقارئ لتقرير المدعي العام للمحكمة لابد أن يلحظ الفوارق الفنية بين جرائم العراق وموقفه منها، وسكوته على جرائم إسرائيل في غزة، وبين تقريره الذي أضاف فيه جريمة الإبادة الجماعية، بحجة أن السودان طرد عشرات من المنظمات التي رآها مشبوهة فحرم مئات الآلاف من خدماتها، فارتكب بذلك جريمة الإبادة الجماعية!.