Author

حاجتنا إلى محاكم اقتصادية (2)

|
تقدم القول في الأسبوع الماضي أن قيام نظام المحاكم الاقتصادية سيعمل على توفير منظومة حلول متطورة لفض المنازعات سواء فيما يتعلق باختصاصها أو تشكيلها أو إجراءات التقاضي أمامها‏.‏ فمن حيث اختصاص المحاكم الاقتصادية يتوقع أن يكون اختصاصها حصريا وشاملا للمنازعات والدعاوى المتعلقة بالنشاط الاقتصادي. ومن ثم تتناول كل ما يتعلق بمختلف أنواع الشركات التجارية‏,‏ وأعمال المصارف وأنظمة عقود عملياتها كأنظمة التأجير التمويلي والتمويل العقاري ونحوهما، وأنظمة الإفلاس والصلح الواقي منه والتفالس، وأعمال شركات التأمين وأسواق رأس المال‏. كما يندرج تحتها أيضا مختلف أنواع الأنشطة التي تتطلب حماية المستهلكين والتأكد من تحقق المنافسة ومنع الممارسات الاحتكارية‏ في مختلف الأنشطة التجارية والخدمية كخدمات الاتصالات والنقل الجوي ونحوها.‏ كما سيدخل في اختصاصها حماية حقوق الملكية الفكرية‏,‏ وتنظيم التوقيع الإلكتروني‏... إلى آخر هذه القضايا والاختصاصات.‏ ويرى عدد من المختصين في القضاء والقانون، أن اختصاص المحاكم الاقتصادية بالمنازعات والدعاوى سالفة الذكر يجب أن يكون اختصاصا متكاملا. حيث تتناول الدعوى أو المنازعة في جميع جوانبها بما في ذلك الجانب الجنائي إن وجد‏، حتى لا تنقطع أوصال الدعوى الواحدة بين محكمتين أحداهما تنظر الجانب المدني من المنازعة والأخرى تحكم في الجانب الجنائي منها‏. ‏وهذا يضمن سرعة الفصل في الدعوى أو المنازعة برمتها دفعة واحدة‏,‏ فضلا عن أن القاضي المختص بالجانب المدني من الواقعة أقدر على الحكم بالنسبة للشق الجنائي‏.‏ والحقيقة أن الحاجة إلى إقامة محاكم اقتصادية لا تقتصر على بلادنا بل تمتد لتشمل كل دول مجلس التعاون الخليجي، إذ إنها أصبحت ضرورة تقتضيها مواكبة أعمال وفاعليات السوق الخليجية المشتركة التي بدأ تطبيقها مطلع العام الجاري. فقيامها سيوفر آلية فاعلة لفض المنازعات التي تنشأ بين الشركات والمستثمرين، بعيدا عن بطء إجراءات التقاضي وفض المنازعات التقليدية، الأمر الذي سيساعد على مضاعفة حجم التبادل الاقتصادي ودعم إقامة الاستثمارات المشتركة بين دول المجلس. بل إن قيام المحكمة الاقتصادية الخليجية سيعطي مصداقية وثقة للشركات الخليجية عند ممارسة الأعمال التجارية المختلفة محليا ودوليا، نتيجة وجود معايير حاسمة وفاعلة لفض أية منازعات محتمل حدوثها، الأمر الذي سيعزز أيضا المناخ الاستثماري في منطقة الخليج ويساعد بشكل أكبر في حفظ حقوق المستثمرين. إن إنشاء المحكمة الاقتصادية الخليجية سيسهم دون شك في تطوير البنية التشريعية للقطاع الاقتصادي الخليجي، وهي البنية التي مازالت حتى الآن لا تتناسب مع حجم التطور السريع للقطاعات المالية والاقتصادية الخليجية. ونظرا لأن إنشاء المحكمة أصبح في قائمة سلم الأولويات بعد إعلان تطبيق السوق الخليجية المشتركة مطلع العام الجاري ، فإننا نأمل من أمانة مجلس التعاون الخليجي الإسراع في إقامة هذه المحكمة، خاصة أنه سبق لإدارة التكامل الاقتصادي في الأمانة الإعلان عن نيتها بحث مسودة لإنشاء هيئة قضائية للنظر في القضايا الاقتصادية سواء بين الأفراد أو الشركات في منطقة الخليج، حيث تكون هذه الهيئة مستقلة ويشغلها قضاة مستقلون. والخلاصة، إن قيام نظام لمحاكم اقتصادية متخصصة، تتوافر لقضائها درجة عالية من الخبرة والتدريب,‏ سيساعد على بساطة ومرونة إجراءات التقاضي وسيضمن سرعة الفصل في القضايا‏,‏ وعدم التوسع في إجراءات الطعن في أحكامها‏, وتتجنب تضارب الأحكام والرؤى بين مختلف اللجان‏. ويؤكد المختصون - ممن قرأت لهم - أن الجمع بين الشق المدني والجنائي أمام محكمة واحدة يحقق سرعة إصدار الحكم ويضمن سلامته‏,‏ كما أنه يسهل إجراءات تحضير الدعاوى والفصل فيها في أسرع وقت‏. وهذا ما نحن حقيقة في أمس الحاجة إليه، فمثل هذا التنظيم سيسهم في تخفيف العبء على المحكمة وسرعة وصول الحقوق إلى أصحابها، بما في ذلك ما يمكن أن يوفره من فرص إنهاء الدعاوى صلحا قبل نظرها‏. ويقترح هؤلاء المختصون من القضاة والقانونيين، إفراد هذه المحاكم بجداول للخبراء المتخصصين المعتمدين أمامها وتقدير أتعاب حقيقية لهم‏,‏ ثم تشكيل لجنة دائمة لمتابعة سير العمل في المحاكم الاقتصادية ودراسة المشكلات التي قد تعترض حسن سيرها‏,‏ وكذلك اقتراح الحلول المناسبة لها‏,‏ بما فيها برامج تدريب قضاتها وسائر العاملين الإداريين والكتابيين فيها‏. لا شك أننا إذا نجحنا في إنشاء هذه المنظومة الذكية من القضاء الاقتصادي، فسيكون لها ـ بإذن الله ـ نتائج إيجابية بعيدة المدى على رواج الأنشطة الاقتصادية واستقرار المعاملات، وعلى تهيئة بيئة موطنة لرؤوس الأموال المحلية وجاذبة للاستثمارات الأجنبية‏. وهي آثار تشتد حاجتنا إليها في ظل ما نلمسه في بلادنا من معدل نمو عال في سكان، مع كل ما يفرضه هذا النمو السكاني من تحديات اقتصادية جسيمة. والله من وراء القصد.
إنشرها