Author

نظام الرهن العقاري.. بين الأنظمة والتجارب!!

|
لا يختلف اثنان على أهمية وجود قانون، ينظم المعاملات العقارية، لضمان تحقيق التوازن بين العرض والطلب في هذا السوق، ولتمكين الفئات غير القادرة على تملك المسكن الذي يعد أحد أهم معالم خصوصيات الإنسان. فالعقار سواءً كان للسكن أو لمشروع صناعي أو خدمي يشكل عنصراً مهماً ومؤثراً، وتوافره بتكلفة عادلة، يشكل ضمانة رئيسة للنمو الاقتصادي الكلي. فقد يتعثر المشروع الاستثماري بسبب ارتفاع تكلفة إيجار العقار، كما قد يختل السوق إذا اضطر المواطن إلى تخصيص حصة كبيرة من دخله لشراء أو استئجار مسكن. ولهذا من الضروري العمل على استقرار القطاع العقاري، لضمان استقرار الأسواق في الاقتصاد الوطني كافة. وفي ضوء الحوار المجتمعي الثري الدائر حالياً قبل إصدار نظام الرهن العقاري، يسعدني المشاركة من خلال التركيز على عدد من النقاط (والتحديات)، التي أعتقد بأهميتها حيث تبقى محل اهتمامنا سواءً عند صياغة نظام الرهن العقاري أو خلال تنفيذه، وذلك على النحو التالي: ـ ينبغي أن يبقى نصب أعيننا ما حدث لعالمنا أخيرا على أثر تفاقم أزمة الرهن العقاري في الولايات المتحدة وأوروبا، وكيف أن ترك العنان لهذا السوق يمكن أن يؤدي إلى كارثة نحن في غنى عنها. ولهذا ينبغي أن يكون نشاط البنوك في هذا الخصوص خاضعاً لرقابة صارمة من قبل مؤسسة النقد العربي السعودي، وتطبق العقوبات الرادعة على من يخل بهذا النظام. ـ يلزم إعداد سوق العقار أولاً قبل أن يكون هناك نظام للرهن العقاري، حتى يكون مهيأً للطفرة المحتملة في الطلب، وذلك من خلال توفير المساحات الصالحة للبناء (العرض) بالمساحات الكافية، على أن يتم ضبط السوق من آن لآخر، للحفاظ على مستوى من التوازن بين عرض العقار والطلب عليه. ـ ينبغي أن يبقى سوق العقار بعيداً عن استثمارات الأجانب، بمعنى ألا يسمح للأجانب بشراء أو بيع العقار في المملكة، حيث يقتصر النشاط في هذا السوق على السعوديين. فتجربة بلد كمصر أفضت إلى نتائج في غاية السلبية، حيث لم يعد بمقدور أفراد الطبقة الوسطى في مصر (ولا أقول الطبقة الفقيرة) شراء أو استئجار عقار، بعد أن تحول سوق العقار في مصر إلى سوق لمضاربات الأجانب. وعليه، حتى نضمن للمواطن السعودي الحصول على المسكن بسعر عادل، يلزم إبعاد الأجانب كلية عن هذا السوق. ـ ولتحقيق المنافسة العادلة في هذا السوق، يلزم ضمان التزام شركات الاستثمار والتطوير العقاري بقواعد المنافسة ومنع الاحتكار. فتجربتنا في مصر مريرة – وأنا أتحدث عن تجربة أعرفها جيداً - مع شركات الاحتكار العقاري، حيث بات سوق العقار بيد حفنة من الشركات التي احتكرت وابتلعت كافة المسطحات المخصصة للبناء، ثم قامت بإعادة عرضها للراغبين بأسعار فلكية. فهل يعقل أن يرتفع سعر شقة سكنية، وفي أقل من 5 سنوات من 300 ألف جنيه إلى أكثر من مليون جنيه؟! إن السبب الرئيس في هذه الكارثة هو احتكار شركات الاستثمار العقاري. ولهذا ينبغي وضع وتنفيذ الأنظمة الرامية إلى منع الاحتكار وتعزيز المنافسة، والتي ستضمن في نهاية الأمر وصول العقار إلى المواطن بسعر عادل. وفي الوقت نفسه، ينبغي فرض عقوبات رادعة على من يثبت في حقه تلاعب في هذا السوق، والتشهير به في ثلاث صحف على الأقل، ليكون عبرة للمتلاعبين أمثاله. ـ ضمان الاستقرار في الأسواق كافة، وهذه ضمانة مهمة لإنجاز أهداف نظام الرهن العقاري. لا يكفي إصدار نظام للرهن العقاري في وقت تشهد فيه أسواق السلع أو الأسهم حالة من التذبذب الحاد. فعلى سبيل المثال، دعونا نتذكر أزمة ما سُمِي ''بالدوت كوم'' في الولايات المتحدة مطلع الألفية، عندما انهارت أسعار أسهم شركات الاتصالات. الذي حدث هو أن المستثمرين وبعد انهيار هذا السوق تحولوا بشكل مفاجئ إلى سوق العقار حتى أشبعوه وأشعلوا فيه النار. وبالتالي علينا من خلال السياسات الاقتصادية والمالية والنقدية العمل على ضمان الاستقرار في الأسواق ليستقر سوق العقار كافة. ـ لا شك أن سعر الأرض الصالحة للبناء يشكل أحد أهم مكونات تكلفة الوحدة السكنية (أو المخصصة للصناعة أو الخدمات)، ولكن هناك مكونات أخرى ينبغي أن تبقى مستقرة لنصل إلى الهدف من إصدار هذا النظام كأسعار مواد البناء، وفي مقدمتها الحديد والأسمنت. ينبغي ضمان المنافسة فيها لتبقى بعيدة عن الممارسات الاحتكارية، وبالتالي نضمن إنجاز الأهداف التي يتغياها نظام الرهن العقاري. كما أن تنفيذ نظام الرهن العقاري سيحدث حالة غير مسبوقة من النشاط في السوق، ومن ثم الطلب على تلك المنتجات لأغراض البناء، وفي حالة عدم كفاءة السوق (سوق الحديد أو الأسمنت تحديداً) يمكن أن تحدث ارتفاعات غير مرغوبة أو غير مبررة في أسعار تلك المنتجات، ويكون ما حققه نظام الرهن العقاري باليمين قد تم سلبه باليسار، ''وكأنك يا أبو زيد ما غزيت''، بل قد تزداد الطينة بلة. ـ ينبغي مراجعة أنظمة البناء المعمول بها في المملكة، خاصة تلك التي تُقَيِد التوسع الرأسي، وبالتي تقود إلى توسع أفقي يرهق ميزانية الدولة. على سبيل المثال، لا يسمح بالارتفاع لأكثر من طابقين في بعض الشوارع، أو أربعة طوابق في البعض الآخر، والنتيجة تتمثل في الامتداد الأفقي للسكن، وما يتطلبه من مد للمرافق؛ كالصرف الصحي وشبكات المياه والكهرباء والاتصالات وغيرها، وهذا يكلف الموازنة العامة مبالغ ضخمة، في حين أن الكفاءة الاقتصادية تقتضي الحد من هذه التكلفة. لذا يلزم إعادة النظر في أنظمة البناء، وإلا فإن توسع المعروض النقدي المخصص للاستثمار العقاري، سيقود في النهاية إلى عدم قدرة الدولة على مواكبة تلك التوسعات في المناطق الجديدة. كما ينبغي على البلديات وغيرها من المؤسسات مراجعة هذا البند من بنود الإنفاق للاستعداد لمواكبة الطفرة المحتملة التي ستعقب صدور هذا النظام. ـ ينبغي أن يسير التوسع في الرهن العقاري وفي قطاع الإسكان جنباً إلى جنب مع سياسات واستراتيجيات عامة أخرى، مثل سياسة السعودة والحد من العمالة الوافدة. فنحو 25 في المائة من المساكن القائمة حالياً مأهولة بعمالة وافدة، وفي حال إحلال هذه العمالة بعناصر عمل سعودية، علينا أن نتوقع توافر وحدات سكنية تبحث عن ساكن (السكن الذي تركه الوافد)، وإلا فسيكون هناك فائض في العرض يربك السوق بأكمله. ـ ينبغي وضع ضوابط صارمة عند منح قروض الرهن العقاري، حيث تعطى للمستحقين وليس لتجارٍ يستهدفون الثراء والقفز على أكتاف الآخرين. فالمفترض أن هذا النظام وضع لتمكين شريحة معينة من الحصول على المسكن الكريم. كما ينبغي على المقترض لغرض الاستثمار العقاري عدم استخدام القرض في أغراض أخرى أو عدم التصرف في الوحدة الضامنة للقرض، وإلا سيتحول السوق إلى سوق للمضاربات، يؤدي في نهاية الأمر إلى حدوث كارثة، شأن تلك التي شهدتها الولايات المتحدة وغيرها من الدول. ـ وأخيراً، علينا أن نتعلم من الأزمة العالمية الأخيرة درساً مهماً، وهو ''أننا علينا ألا نثق كثيراً بحرية السوق ومن ثم كفاءته المطلقة''، ولهذا ينبغي أن تكون الدولة بالمرصاد لكل من تسول له نفسه اللعب بمقدرات الآخرين، أو السعي لإشعال سوق مهم كالسوق العقاري، فالحرية مرغوبة ومطلوبة ولكنها الحرية المنظمة والمقيدة بمتطلبات المصلحة العامة. كما ينبغي أن تواصل الدولة برامجها المختلفة لبناء وحدات سكنية لمن لا يستطيعون الاستفادة من نظام الرهن العقاري. أختتم هنا بالقول، ''ما أكثر التشريعات والأنظمة ذات الأهداف السامية، وهو الهدف ذاته الذي يتغياه نظام الرهن العقاري المنتظر، ولكن، بلوغ هذه الأهداف العظيمة، يستلزم توفير البيئة المناسبة لنجاحه وإلا سيحدث ما لا تحمد عقباه، وهو ما لا نتمناه. وأعتقد أن التحديات والقضايا التي أشرت إليها في حاجة إلى وقفة جادة، والتريث قبل إصدار القانون، لحين التأكد من معالجتها بشكل كامل. وفقنا الله جميعاً إلى ما فيه رضاه.
إنشرها