هل يقضي إنشاء المزيد من الهيئات على الفساد؟!
على أثر كارثة سيول جدة، وما كشفت عنه من علامات الفساد الذي اكتنف تنفيذ مشاريع المحافظة بوجه عام، ولا سيما المشاريع المتعلقة بالبنية التحتية، من صرف صحي، وتصريف أمطار وسيول، وطرق وأنفاق وجسور، وتمثل ذلك في فشل بعض المشاريع، أو تأخير تنفيذها، أو عدم تحقيقها أهدافها، أو تحويل اعتماداتها إلى مشاريع أخرى أقل أهمية، كما تمثل في عمليات تواطؤ واستغلال وإهمال، تسببت في دفن الأودية ومجاري السيول ودمجها ضمن مخططات عقارية تمت الموافقة عليها واعتمادها، وإصدار التراخيص ببنائها!
أقول على أثر ذلك تعالت أصوات بعض الكتاب للمناداة بإنشاء هيئة ملكية لمحافظة جدة على غرار الهيئة الملكية للجبيل وينبع، أو إنشاء هيئة خاصة بمشاريع المحافظة، تتولى تنفيذها، أو اقتراح لجنة عليا لذات الغرض، وهناك من اقترح إنشاء هيئة عليا تتولى تنفيذ مشاريع الدولة ككل، أي إبعاد الجهات الحكومية التابعة لها المشاريع عن تنفيذها أو الإشراف عليها، وبدا كل من اقترح شيئا من ذلك وكأنه يرى أنه لا مجال لإصلاح الوضع، ومعرفة المهملين والمستغلين ومجازاتهم، أو كأنه يفترض أن الكل غير جدير بالثقة، ولا يستحق أن يتولى الإشراف على تنفيذ مشاريع بالمليارات!
ومناقشة مثل هذه الرؤية تتطلب إيضاح بعض الأمور التي من شأنها توفير القناعة بجدوى الفكرة المطروحة، أو تبين صعوبة تنفيذها، وعدم تحقق الأهداف المتوخاة منها بالكامل، كما يتضح مما يلي:
1 ـ لعله يحسن التذكير، في البداية بوضع المشاريع الحكومية والجهات التي كانت تتولى تنفيذها، أو الإشراف عليها قبل عدة عقود، لاستحضار الماضي ومقارنته بالحاضر، فقد كانت هناك جهة تسمى (وكالة الأشغال العامة) مختصة بتصميم وإنشاء المشاريع الحكومية والإشراف عليها، وكان ذلك قبل سنوات الطفرة الأولى، حيث لم يكن يحق لأي جهة حكومية، أن تتولى مشاريعها بنفسها، فضلا عن أنه لم يكن يسمح لأي جهة بإنشاء إدارات هندسية أو تعيين مهندسين تابعين لها، وبطبيعة الحال كانت المشاريع متواضعة جدا لتواضع حجم اعتماداتها!
وفي مرحلة لاحقة تم إنشاء وزارة الأشغال العامة والإسكان، أي تحولت الوكالة إلى وزارة وأضيف إليها الإسكان الحكومي الذي كانت تتولاه وزارة المالية، ثم في بداية عهد الطفرة المالية الأولى سمح للجهات الحكومية، التي لديها مشاريع كثيرة، بإنشاء إدارات هندسية تتولى الإشراف على مشاريعها، نظرا لتضخم حجم المشاريع وكثرتها، واقتصر دور وزارة الأشغال العامة والإسكان على الإشراف على المشاريع الصغيرة التابعة للجهات التي ليس لديها إدارات هندسية، أو أن مشاريعها لا تتطلب إنشاء مثل تلك الإدارات، ومنها مشاريع المساجد وبعض مباني المدارس، وأصبح اليوم لدى كثير من الجهات التي تتبعها مشاريع كثيرة، إدارات هندسية، وعدد كبير من المهندسين تراكمت لديهم الخبرة والإمكانات الفنية.
2 ـ لا شك أن العاطفة التي خالجت المشاعر بعد كارثة سيول جدة، كان لها دور في نظرة التشاؤم التي سادت وانتزعت الثقة من المسؤولين عن تنفيذ المشاريع في المحافظة، وكأن بعض الإخوة الكتاب يرى ألا فائدة من استمرار توليهم لتنفيذ المشاريع، وأن الأولى أن تتولاها جهة مستقلة عنهم، ومن هنا جاء الاقتراح.
3 ـ إذا سلمنا بفرضية إنشاء هيئة ملكية، أو لجنة عليا، أو هيئة عامة أو نحو ذلك، كلما أصاب الفشل جانبا من جوانب الإدارة الحكومية، فكأننا نعترف بعدم جدوى إصلاح الخلل، ونقر بوجوده والتسليم باستمراره، وهو ما يؤثر سلبا في أداء الأعمال الحكومية ككل، لأن الاسترسال في إنشاء المزيد من الهيئات ينتزع الثقة من الدوائر الأساسية المكلفة بتقديم الخدمات للمواطن، ويظهرها وكأنها إدارات مهمشة أو مقصاة! فضلا عن أنه لم يثبت أن كل الهيئات التي أنشئت حققت أهدافها بالكامل، رغم منحها المزيد من الصلاحيات والاعتمادات.
4 ـ إنه لا يمكن تحويل كل المشاريع إلى الهيئة المقترحة، وهو ما يعود إلى طبيعة المشاريع ونوعها وحجمها، أي أنه ستبقى بعض المشاريع في عهدة الجهة الأساسية، وبما أن هذه الجهة غير حائزة الثقة، بدليل ما حصل منها من قصور وإهمال بل وفساد، فإنه في هذه الحالة لا يمكن الاطمئنان على سلامة المشاريع التي ستتولى تنفيذها، وهو ما يعبر عنه بالمجازفة والتفريط في المال العام.
5 ـ وإذا سلمنا فرضا بإحالة المشاريع إلى هيئة عليا أو بأي مسمى آخر، فستبقى هناك أمور مهمة لدى الجهة الأصلية، يمكن أن يتسلل من خلالها الفساد، مثل تطبيق منح الأراضي، والمخططات السكنية، ورخص البناء، ومشاريع النظافة والصيانة، فهل يعهد بمثل هذه الأعمال إلى هيئة أو جهة أخرى لعدم توافر الثقة في الجهة الأصلية بسبب خراب ذمم بعض الموظفين وضمائرهم فيها؟! أم أن الأولى البحث عن مصدر الخلل وإصلاحه، ومعرفة المتسببين فيه ومجازاتهم وإبعادهم، والتعرف على العناصر النزيهة الكفؤة، وتقريبها ومنحها الثقة (المقيدة)، مع متابعة أعمالها من قبل الرؤساء، ومرجعياتهم، وجعل المسؤولية تضامنية فيما بينهم، ليشعر كل بمدى مسؤوليته، وأن كبر المنصب يدل على كبر حجم المسؤولية، وأن المقاعد الوثيرة تعني المسؤوليات الكبيرة، وهو ما يمثل انقلابا في مفهوم الإدارة، وتسلسل المسؤوليات، نحن في أمس الحاجة إليه، في هذا الوقت، وفي المستقبل، بدلا من الاسترسال في الحلول المسكّنة، مثل إعفاء الجهات الأصلية من مسؤولياتها، وإحالتها إلى جهات أخرى مثل الهيئات! فضلا عما يترتب على ذلك من اعتماد الميزانيات التي تتضخم سنة بعد أخرى، وتشكل عبئا على الخزانة العامة.
والله من وراء القصد.