Author

مخاوي الليل ..

|
«الجهلُ، هو ليلُ العقل» - كونفوشيوس. .. حياتُنا مصبوغة بما نجهل، ولنقل إن هذا من حقائق الوجودِ. من وظائف العقل الإنساني أن يشكّ وأن يبحث ليطرد الجهلَ أو شيئا منه. على أننا في هذا الوجود لا بدّ أن ننجو، لا بد أن نخلص من مآزقنا، وأن نعيد تملكنا للإحساس الأمني، أن نناضل من أجل مقاصدنا ومن أجل عزّة وجودنا كأفراد، وعِزة وجودنا كجماعاتٍ، وعزَة وجودنا كأمّة. لذا علينا أن نتحرى حقيقة الأنوار في هذا الوجود، ونتصيّد شواردَ الضوء لنعيد النظر إلى داخلنا، أن نسلط الكشّاف داخل عقولنا لنزيل الظلام منها، أن نفتح نوافذ أرواحنا لتتسلل أضواء الفجر فترفع ستار الليل قطعة قطعة .. كي نرفع ستارَ الجهل! المؤلم ، والحقيقة الواقعية أن بعضاً منا مازالوا من قاطني عالم الليل، أولئك المتجولون في النواحي يتأملون الظلامَ وهو يلقي السجُفَ ويصرون على ذلك لأنهم اعتادوه، وليس بالضرورة استمرأوه أو اختاروه، وهذا هو ليلُ العقل بالإرادة والتصميم . نحن شعوبٌ تحب الليلَ، وهناك من أطلق على نفسه "مخاوي الليل" ليعطي وهَجا عاطفياً عاصراً للمشاعر، وأظنه نجح في ذلك فالكثيرون يريدون أن يخاووا الليل، لأن الليلَ لا يكشف عن شيء وبالذات الخطايا، ويغيِّبُ الفشلَ ويزرع أحلاما خاوية في عقولِهم فإذا هي جُل حياتهم. وفي الجوار يجب ألاّ يتعثر المصلحون، هؤلاء الذين يقدمون الكشافاتِ والمشاعل، يسقطون على طين الأرض، ثم يحاولون الشموخَ والارتفاع من جديد، ولكن طريق الإصلاح دوما هو طريق الآلام من عهودِ الرسل والأنبياء، مصلحونا مثخنون بالجراح، وتُقذف عليهم الحجارة ويرمَوْن بالسباب، ولكنهم يناضلون لأن طبع المصلحين الأول هو العناد الدؤوب.. ماذا يفعلون؟ هكذا خلقهم الله.. يستمرون رغم الشقاء. ألا ترى أن العالمَ في طاقة صعوده الإنساني استنارَ بوقود من أثمن وأصفى الأنواع، وهذا الوقودُ هو عرقُ وآلامُ ومعاناة ودم المصلحين في كل مجالٍ من مجالات الوجود الإنساني. ورغم محاولات الإصلاح يبقى كثيرون رهائن عند العالم المظلم مثل قاطني الكهوف، أو مثل ذلك النوع من المخلوقات التي تروي عنها قصصُ الخيال العلمي التي تعيش في سراديب الأرض المعتمة، فيضمر البصرُ رويدا، ثم مع الزمن تتطور منها سلالاتٌ بلا عيون .. تُصر المجتمعاتُ التي مازال الليلُ في عقولها على وضع السياج بعد السياج، وقفل الأبواب بالرتاج بعد الرتاج، حتى لايقفز إليهم أو يتسلل المصلحون، لأن هؤلاء المصلحين بالنسبة إليهم لصوصٌ يحاولون سرقة الليل الذي اطمأنّوا إليهِ واطمأنّ إليهم. إن من يحاول التنوير، وإعادة الناس إلى الجادة القويمة وانتشال الناس من حمأة الليل يتعرض للذمِّ والقذفِ وربما العقاب لأنه عكـَّر سكون الليل! وإننا نسألُ اللهَ حُسنَ الجزاء لهذه النفوس الأبيةِ المتطهّرةِ التي تريد أن تُشعل الأضواءَ لقومٍ أرادوا ألا يخرجوا من ظلال الشك، وظلام الجهل. وبما أننا بعزيزِ القول المسندِ نخرج أطهاراً سليمي الفطرة لهذا الكون من بطون أمهاتِنا، أي نخرج كائناتٍ تبحث عن الضوء، ضوء العالم الجديد، بعد أن كنا في ظلامٍ مقيم، فذلك يعني أنه لا يمكننا إدمان الظلام، فبداخلنا نفحاتٌ قدسية من الضوءِ تتلـَّمَسُ الخروج، إن لم تخرج من تلقاءِ ذواتنا فإن القادرين على إشعالِها هم أصحابُ الأفكار والمبادئ العليا متى ما احتفينا بهم واستقبلنا رسائلهم. الضوءُ الداخلي لا يموت أبدا، وإنما ندفنه نحن، ونحن نخاوي الليل، ونجاور الشكَّ والجهل.. ولكن ما الذي يجعل الأنوارَ تخفتُ في حياتنا وينساحُ الإعتامُ من عقولِنا ؟ الجوابُ، لأننا كولاةِ أمور، ومعلمين، ومربين، وموظفين عموميين، ومسؤولين في أي نطاق نتلهّى في كل شيءٍ وننسى أهم الأشياء: واجباتُنا الحقيقية نحو أنفُسِنا، وذلك بأن نضيئها بأنوار المعرفةِ العادلة، ثم ننقل هذه الأنوار إلى من حولِنا من الذين هم مسؤوليتنا أبناءً، وتلاميذ، وجموعَ الناس. لسنا من المتشائمين على الإطلاق، فالمُنوِّرون في مجتمعنا موجودون، ولا يعتقد أحدٌ أن التنويرَ فقط في التفكير الروحي والإيقاظ الديني، ولكن في كل قضايانا من علاقاتنا البينية إلى التعليم، والتجارب العلمية والعملية والبحوث، وفي المناشط وفي المشاريع، وتحفيز الاقتصاد، ومكافحة الفقر، وخنق الفساد، وفوقهم مظلة من حفظِ الحقوق لكل فرد.. الحق في أن يخرج من بيته ليجدَ الرزقَ، ويجد العلمَ، ويحق له إبداء الرأي في شأن الحياة التي يعيشها.. ثم يعود إلى بيته آمنا قانعاَ. وبما أن الظلامَ يسري على كل الطبقاتِ، فإن الضوءَ لابد أن يسري فينا كلنا في كل الطبقات، فالله أَّهلـنا لنخاوي النور، لا لنخاوي الجهل، لنخاوي النهارَ.. وننام الليل!
إنشرها