Author

جدة: إنـِّي أغرَق.. أغرَق!

|
* أهلاً بكم في مقتطفاتِ الجمعة رقم 325. *** * حافزُ الجمعة: الشجعانُ أصحابُ الضمائرِ هم الذين لا تنام أعينُهم وحولهم ضَيـْمٌ يصعق جموعَ الناس، الذين يقفون بتحدٍّ أمام المتغطرسين وأصحابِ القوّةِ المُظلمة. الشجعانُ يملكون الشهامةَ والجسارةَ الحقيقيتَيْن لخوض معركةٍ صريحةٍ ضد المصلحةِ الضيِّقة الغاشمة، والغرورُ الذي يُعْمي عن رؤية معاناة الناس، واستغلالِ السُلطةِ للوَلـَغِ في إناءِ الصالح العام. وهم الواقفون بحزمٍ مستعدين لمواجهة الشرِّ والفسادِ، ومحاربة كل من يزدري بقيةِ الناس فقط لأن الظرفَ سلـَّمَه موقِعاً قوياً، ومركزاً نافذاً فحَسِبهما رخصةً للتعالي والتجبّر والتكسّب. الأفرادُ الشجعانُ إن لم يظهروا في وقتِ المِحَن.. فطوبى إذن لأهلِ الفسادِ والتسلطِ واللاعبين بمصائر الناس. *** * حدث الجمعة: كان تدخل عاهل البلاد شخصياً في وضع حلٍّ حالي وحاسم بالتعويضات المادية المالية لمنكوبي سيل جدة دليلا على انفطار قلبه على ما جرى على أهلها من معاناة فوق التوقع. ونرجو أن يكون تشكيل اللجنة التي أمر بها الملكُ عند مقاصدِه العُليا في إثباتِ حالات الفسادِ وتخطيه إلى نظامٍ شفافٍ قابلٍ للرقابة والجزاءِ والعقاب. وهو تدخل القلب الشجاع، والمستشعر لعظم أمانة المسؤولية. *** * قضيةُ الجمعة: غرقُ مدينة جدة التي لا يهطل عليها المطرُ إلا شُحّاً لساعاتٍ قليلةٍ في أوقاتٍ أقل، يكون مصيرُها كل مرّةٍ أن تقدِّم ضريبة المطر. هذه المرة الضريبةُ باهظة من الضحايا، وباهظة من الممتلكات الخاصة، وفلكية من الخرابِ في البُنـَى العامة. وكـأن جدة مدينةٌ حُرِّمَتْ فيها حُرْمَةً قطعية هندسة تصريف المياه، كـأنها مدينةٌ ممنوع على سمائِها أن تُنزل الماءَ.. كأنها مدينة أُعِدّت لليباس، وكأن الماءَ من المحظورات. لا يمكن أن نتصور أن هذه «الهندسة البدائية لتصريف الفائض من الماء» غابتْ عن أذهان مخططي المدينة ومنفـِّذي الوصاية عليها، ومستـَلِمي أمانةَ من يعيش بها. *** * أن ترى فيلماً تَهدُرُ فيه المياهُ كالطوفان تجرف الناسَ والسياراتِ والمقتنياتِ من المباني والبيوت يُعد كارثةً وطنية في البلدان التي تقع في تلاحم مدارات الأعاصيرِ طوال العام.. ولكن في جدة، فهذا أمرٌ سِرْيَاليٌ فوق الخيال.. إنه إخراجٌ قدَريٌ لقيْح الورم الإداري بسببِ هذه العقلية السلحفائية التي تُرجئ الأعمالَ الكبرى، وتَهْرَعُ بسرعة الضوءِ كطيْرِ الخَطّافِ لخُلـَّبِ المشاريعِ والأعمال. *** * لا عُذرَ يُقبـَل أن تغرق جدة، لا عُذر يُقبـَل أن يموتَ الناسُ في جدة، وبسببِ ماذا؟! بسبب المطر الذي نقيم الصلاةَ والدعاءَ استسقاءً من أجله.. لا عذرَ أن يبقى مسؤولٌ عن التقصير في خدمة المدينةِ، فكان لا بد أن يرتفع صوتٌ شجاعٌ وجريءٌ وعادل، ويقول: «كفى! كفى! حلّ أوانُ الحِساب». *** * الإداريون الذين لا يعرفون أن يطبـِّقوا ما يطبقه نظراؤهم في كل مكانٍ في الأرض، هم أناسٌ لا حاجة لنا بهم. هم بالنسبةِ لنا.. يملأون الفراغَ بمثلِه! *** * عندما يقف التاريخُ راوياً عن يوم الغرق في جدة سينقلُ أمام أسماع الزمن: «إنه يومٌ اختلطتْ فيه مياهُ السيلِ مع دموع أهل المدينة.. ولا نعرف أيهما كان سببُ الطوفان». *** * سُمعة بعض المصالح عندنا ليست في أحلى حال.. لم يعد سِرّاً، ولا قولاً هامِساً يدورُ في حماية الجدران بالصوالين والديوانيات، بوصفها محميات للفساد. الكلّ عنده قصة، والكلُّ عنده تجربةٌ، والكل سيقولُ لك عن إتاواتٍ تُفرَض، وعن صفقاتٍ تُبرَم، وعن أطماعٍ تدورُ في الدهاليزِ والقاعات.. إنها محمياتٌ يُثرى بها الفردُ البائعُ ضميره على حاجات الناس. ومن رحِمَ ربي يعانون بالبقاءِ نظيفي الأيادي.. إنْ بَقـُوا! *** * من نتّهم ومن نلوم؟ من هم فوق أو من هم تحت؟ لكلٍّ ظرفُه، ولكلٍّ تبريرُه، وهناك من لا يستطيع أن يغيرَ حتى لو شاءَ التغيير.. وهنا الأمرُ الفالـَج. إنها طبيعةُ حياةٍ قـَبـِلـَها بعضٌ من العاملين، وتقبّلها على مضَضٍ كثيرٌ من المتعاملين. *** * عجيبٌ؛ القائمون على قلبِ المدينة، هم الذين يسدّون شرايينَ هذا القلب، ويمنعونه من الخفقان، ويراكمون زيْتاً غليظاً على جدران أوردتِه.. فيغرق القلبُ بمائِهِ ودهونهِ وفسادِ وظائفِهِ. لن ينفع اللومُ ولا التغيير اللحظي ولا الشخصي.. إنها جذورٌ سلوكيةٌ يجب أن تُقلع من آخر توغلاّتِها في تربةِ الأخلاق.. أو قِلـَّةِ الأخلاق. *** * جدة مدينةٌ تنتظرُ أن يأتيها بطلـُها الإداري الذي ينقذها من بحرِ هذه المثالبِ.. ونرجو ألا يغرق هذا البطلُ وهو يسعى بمحاولة الإنقاذ! *** * لا تغرق المدائِنُ إلا في الخيال، كشُهرَةِ «أطلانطيس» القارة الغارقة في الأساطير.. ولكنها شهرةُ الاندثار، شهرةٌ لن تكون ـ بإذن الله ـ لجدّة ولا لغيرها من مُدُنِنا، لأن الأفرادَ الشجعان لن يسمحوا لها بالغرق مرةً أخرى، وإلاّ.. فلا وجودَ لهم إلا في الخيال! *** * إن استمرّ الحالُ، فلا سبيل لأهل جدة إلا أن يحفروا بأظافرهم تُرَعاَ لسيول الأمطارِ تسوقها لتصبّ في البحر، ليغرق الماءُ في الماء. *** * الشجاعُ الحقيقي يبزغُ في المصائبِ الكبرى، ويقفُ شاهِقاً فوقَ رُكامِ العفَن والفساد، ويبقى قوياً.. حتى لو وقـَف وحيداً!
إنشرها