Author

في أمريكا المشكلة نشأت من سياسات الإفراط في الإقراض.. وفي دبي من الاقتراض

|
عندما كنت أطالع مخططات البناء الضخمة في إمارة دبي، دائما كنت أسأل نفسي هذا السؤال المحير: كيف تقدم مثل هذه الإمارة الصغيرة المساحة على بناء هذا العدد اللانهائي من ناطحات السحاب؟ ولمن تبني هذه المباني الضخمة؟ في ظل حجم سكاني ضئيل لا يتجاوز المليون ونصف معظمهم من العمال الأجانب غير القادرين أصلا على تملك تلك المساكن الفارهة. كنت دائما ما أبرر ذلك بخطط دبي للتحول إلى مركز تجاري عالمي، وكذلك إلى مركز مالي عالمي، ناهيك عن خططها لتتحول إلى مركز سياحي وترفيهي من الطراز الأول، وهو ما يقتضي ضرورة توافر عرض مناسب من العقارات بشتى أنواعها، سواء لأغراض السكن العائلي، أو السكن الإداري، أو السكن الفندقي. غير أنني اكتشفت لاحقا أن دبي تحولت في السنوات الأخيرة إلى مقاول البناء الأول للعالم لجميع هذه الأغراض، وقد تم تسويق دبي للعالم على أنها المركز المقبل لأداء الأعمال على مستوى العالم، وأصبحت دبي ليس فقط محط اهتمام العالم، وإنما أيضا مركز جذب عالمي. دبي إذن مدينة بنيت بواسطة الأجانب وللأجانب، بينما تذهب إيرادات ذلك للشركات الوطنية. عندما بدأت دبي نهضتها الحديثة قامت بذلك بسرعة فائقة، ساعدها في ذلك توافر التمويل اللازم، غير أن كثافة عمليات البناء أحدثت سخونة غير طبيعية في الإمارة، ترتب عليها ارتفاع الأسعار بصورة كبيرة، ووفقا للتجارب الدولية في هذا المجال فإن الوضع الطبيعي الذي يعقب السخونة المتزايدة للاقتصاد هو الانهيار. ليس هناك ضرر في أن تقوم الإمارة بإنشاء أكبر عدد من ناطحات السحاب في العالم، طالما أن هناك طلبا حقيقيا على هذه الناطحات، لخدمة عمليات الإنتاج أو تقديم الخدمات التي تضمن استمرار الطلب مرتفعا على تلك المباني. إلا أنه اتضح بعد ذلك أن الجانب الأكبر من عمليات البناء قد ارتكز في جانب كبير منه على التوقعات المرتبطة بالمضاربة على أسعار المباني في المستقبل، بالشكل الذي يحقق هدفا آخر من عمليات البناء المكثف، هذا الهدف هو المضاربة. لقد جذبت معدلات النمو غير الطبيعية في أسعار المباني في دبي المضاربين والمستثمرين من شتى أنحاء العالم لمحاولة تملك مسكن في دبي كي يضاف إلى رصيد الأصول الاستثمارية لديهم، انتظارا لارتفاع الأسعار في المستقبل، وأصبحت مباني دبي أحد أشكال تنويع المحافظ الاستثمارية على مستوى العالم. ولقد ساعد الارتفاع الخيالي في أسعار المباني في دبي على عدم الاهتمام بجانب التكلفة عند البناء، لدرجة مكنت المبادرين في مجال البناء مثل «نخيل» من التركيز أساسا على المشاريع الخيالية، وليس عمليات البناء التقليدي، فتم إنشاء مشروع «النخلة» و«قارات العالم»، و«برج العرب» و«برج دبي» وغيرها من المشروعات التي تشابه ما نقرأه في قصص ألف ليلة وليلة. باختصار كانت عمليات البناء مكلفة جدا وبصورة خيالية، ومن ثم فرضت أسعار مرتفعة جدا لمباني دبي، ولكن لماذا لم يتم تصحيح الأوضاع من خلال قوى السوق طوال هذه الفترة الطويلة؟ الإجابة هي أن قوى السوق لم تكن تعمل بشكلها الصحيح بسبب دور عنصر التوقعات المرتكزة على السمعة العالمية التي اكتسبتها دبي عبر الزمن كأفضل موقع للاستثمار العقاري في العالم، والاعتقاد الدائم بأن هناك مشتريا محتملا، ليس شرطا أن يكون من المنطقة، إنه سيأتي من أي بقعة في العالم، مستعد لدفع أي سعر، مهما كان مبالغا فيه. المضاربة القائمة على توقعات ارتفاع الأسعار كانت إذن هي وقود عمليات البناء في دبي، فجميع مشروعات البناء في دبي ارتكزت إذن على عنصر المضاربة القائم على التوقعات القائمة على استمرار ارتفاع الأسعار في المستقبل. إنه المبدأ نفسه الذي أحدث بالون أسعار المساكن في الولايات المتحدة، ومن ثم أشعل الأزمة المالية العالمية، مع الفارق بأن أزمة سوق المساكن في الولايات المتحدة نشأت بسبب سياسات الإفراط في الإقراض، أما أزمة دبي فقد نشأت نتيجة سياسات الإفراط في الاقتراض. في السنوات الأخيرة أصيبت الإمارة برغبة محمومة في البناء السريع، وقد كان النمو السريع في عمليات البناء على حساب نمو مماثل في حجم ديون الإمارة. للأسف حمى البناء في دبي لم تكن قائمة على مصادر ادخار محلية أو مصادر تمويل داخلية لشركات البناء، وإنما اعتمدت بصورة كبيرة على عمليات التمويل من الخارج لسببين، الأول هو سهولة إعادة دفع هذه القروض في ظل استمرار الطلب مرتفعا على مباني دبي نتيجة الإقبال الشديد على المباني التي يتم إنشاؤها في الإمارة. السبب الثاني هو تراجع القوة الشرائية لهذه القروض بالنسبة لأسعار تلك المباني في المستقبل، بسبب الارتفاع المستمر في أسعار المباني، وهو ما يمكن شركات البناء من إعادة دفع قروضها بسهولة. الخلاصة هي أن الإمارة كثفت عمليات الاقتراض لأغراض عمليات البناء، استنادا إلى توقعات ارتفاع الأسعار، وقد مكنت هذه السمعة التي تمتعت بها دبي من أن تجد أبواب خزانات البنوك العالمية مفتوحة دائما في أي وقت وبأي قدر لتمويل مشروعات البناء في دبي. غير أنه من المعلوم أن أرباح عمليات المضاربة، على الرغم من ارتفاعها إلا أنها ليست مضمونة دائما، إذا تحولت الشروط التي تقوم عليها أسس المضاربة، بصفة خاصة فيما يتعلق باتجاه التوقعات، وهو ما حدث بالفعل. فعندما انطلقت شرارة الأزمة المالية العالمية، وجفت منابع السيولة في العالم، انخفض الطلب العالمي على مباني دبي، في الوقت الذي استمرت فيه عمليات البناء في انتظار المشترين وارتفاع الأسعار، ولكن الذي حدث أن المشترين لم يأتوا، ولم ترتفع الأسعار، بل إن العكس تماما هو الذي حدث، حيث مالت الأسعار نحو الانخفاض في ضوء تراجع الطلب، ولأول مرة في تاريخ دبي الحديث تميل أسعار المباني فيها نحو التراجع، فانهارت بذلك الأسس الفنية التي قامت عليها دراسات الجدوى لمباني دبي، لتبدأ الإمارة في عملية تصحيح سعري لا شك أنها مؤلمة جدا، خصوصا إذا ترتب على الأزمة الحالية فقدان دبي سمعتها لدى المستثمرين العقاريين في العالم، ولدى الممولين الدوليين للإمارة. تمتعت دبي إذن خلال السنوات الأخيرة برواج مصطنع وببالون أسعار للعقارات تغذيه التوقعات السعرية في ظل تدفقات ائتمانية لا نهائية، ومع انتهاء الرواج وتوقف الكرينات عن العمل، فإن عددا أقل من المباني يتم إنشاؤه حاليا في الإمارة، كما أن عديدا من المباني التي تم بناؤها لم يتم بيعها في ظل جفاف منابع السيولة، ومن ثم بدأ نمو الإمارة في التراجع، وأخذت فقاعة أسعار المباني فيها في الانفجار، حيث انخفضت أسعار العقارات، وفقا لبعض التقارير، بنحو 60 في المائة، كما تم تأجيل أو إغلاق المشاريع الجديدة في مجال الإنشاء العقاري، ووفقا لبعض المصادر تم إلغاء نحو 400 مشروع تكلفتها نحو 300 مليار دولار نتيجة لانهيار أسعار العقارات في دبي. هذا هو الجانب الأول من القصة، الجانب الآخر من القصة، وهو الأكثر مأساوية، هو أنه مع تراكم الأوضاع السيئة وحلول مواعيد سداد الديون لم تجد أكبر شركات البناء، «دبي العالمية» المثقلة بالديون السيولة الكافية لإعادة تسديد التزاماتها المالية الخارجية. منذ عدة أيام أحدثت الإمارة صدمة في العالم من خلال طلبها تأجيل دفع نحو 60 مليار دولار من الديون المستحقة عليها، والذي نظر إليه من قبل عديد من المستثمرين في العالم على أنه بمثابة إعلان إفلاس من الناحية الفنية. التقديرات المتاحة تشير إلى أن إجمالي ديون الإمارة ربما يراوح بين 80 و100 مليار دولار. وقد حذر المحللون من أن أزمة دبي ربما تؤدي إلى مشكلات أوسع، أو ربما تعيد عقارب ساعة الأزمة المالية العالمية إلى الوراء، أي إلى أوضاع مشابهة لبدايات الأزمة، بل لقد بالغ البعض بوصفها بالأزمة المالية العالمية الثانية. وقد سارعت مؤسسات التصنيف الائتماني إلى تخفيض التصنيف الائتماني لدبي، حيث أصبحت ديونها أكثر خطورة من دول أخرى في العالم تواجه أوضاعا اقتصادية سيئة جدا مثل آيسلندا وليتوانيا. ونتيجة لذلك ارتفعت تكاليف تأمين ديون الإمارة إلى نحو 675 ألف دولار لكل عشرة ملايين دولار من دين الإمارة، وهذا يقل بنحو 30 ألف دولار فقط عن تكلفة تأمين ديون بنك ليمان براذرز قبل إفلاسه. أحدثت أخبار تعثر دبي حالة من الذعر في أسواق المال وأسواق السلع العالمية، التي شهدت تراجعا مباشرا بعد الإعلان، حيث دفع ازدياد القلق حول مستقبل الإمارة إلى عمليات بيع مكثفة في جميع أنحاء العالم لتفادي الآثار التي يمكن أن تترتب على هذا التعثر، بصفة خاصة في آسيا. وأصبحت الأوضاع في بعض الأسواق العالمية تشبه تلك التي سبقت إفلاس «ليمان براذرز»، وقد أطلق البعض على تعثر دبي عبارة «ليمان 2». جاءت إذن أخبار تعثر دبي لتضيف مزيدا من الوقود إلى نار الأزمة المالية العالمية التي ما زالت مشتعلة، وفي وقت حرج جدا حيث يتحدث العالم عن استعداده للخروج من الأزمة. ولكنني أرى أن تعثر دبي أضعف من أن يشعل أزمة مالية عالمية على النطاق الذي أحدثه انفجار بالون المساكن في الولايات المتحدة، فنحن نتحدث عن حجم ديون لا يتجاوز وفقا للتقديرات المتاحة 100 مليار دولار، وهو قطرة في بحر السوق المالي العالمي. الجانب الأهم من القصة هو هل تتمكن دبي من الخروج من أزمتها؟ إن الجانب الأكبر من الإجابة سيعتمد على مدى استعداد العالم لتوفير التسهيلات الائتمانية التي تمكن الإمارة من الخروج من حالة نقص السيولة التي تواجهها. فالبنوك البريطانية، وهي أكثر البنوك تعرضا للإمارة، ربما بسبب العلاقات التاريخية التي تربط بين الدولتين حيث كانت دبي محمية بريطانية حتى عام 1971، ستجد أنفسها في وضع يجبرها على تأجيل عمليات السداد وإعادة جدولتها، حتى تتمكن الإمارة من إعادة سداد التزاماتها، والذي يبدو أنه لن يكون أمرا سهلا في الأجلين القصير أو المتوسط. من ناحية أخرى فإن دبي تحتاج الآن، أكثر من أي وقت مضى، إلى دعم الإمارة الأم، أبو ظبي، التي مما لا شك فيه يمكنها أن تحل مشكلة دبي بسهولة، من خلال رصيد الأصول الضخم الذي تمتلكه من خلال صندوقها السيادي الذي تقترب قيمة أصوله من نصف تريليون دولار، نتيجة سياساتها الأكثر تعقلا في التعامل مع وفوراتها المالية. مما لا شك فيه أنه من مصلحة أبو ظبي إنقاذ إمارة دبي وعدم تركها تسقط صريعة ديونها، حتى لا ينعكس سقوط دبي بصورة سلبية على سمعة الإمارات العربية المتحدة بأكملها. ردود الفعل المباشرة لأبو ظبي تشير إلى أن الأمر لن يكون سهلا، وعلى أسوأ الفروض في حال لم تتدخل أبو ظبي لإنقاذ دبي، فان الأخيرة ستضطر إلى مواجهة الأزمة بمفردها، فما الخيارات المتاحة في هذه الحالة؟ إن أحدث البيانات المتاحة عن تقديرات أصول صندوق الثروة السيادي للإمارة التي يصدرها معهد صناديق الثروة السيادية الدولي تشير إلى أن الأصول الخارجية للإمارة تقدر بنحو 20 مليار دولار. توزيعة الأصول الخارجية لدبي توضح أنها في معظمها أصول يمكن أن تجد مشتريا بسهولة، غير أن ضيق الوقت، وحجم الأصول المطلوبة من قبل الإمارة ربما ينبئان بأنه إذا لم تتمكن الإمارة من الحصول على مساعدة من الإمارة الأم، فربما تضطر دبي إلى بيع أصولها الخارجية في عملية حرق سعري على نطاق واسع. دبي بأصولها ومبانيها الشاهقة، ليست مفلسة، بالمعنى الفني للمصطلح، وإنما تواجه مشكلة نقص مؤقت في السيولة، وفي رأيي أن دبي ستعود، ولكن الأمر سيكون على حساب معدلات النمو الاستثنائية التي تمتعت بها الإمارة في الماضي. إن عودة دبي ستتطلب إيقاف حالة فوضى البناء، ومن ثم نمط الأرباح غير الطبيعية التي تحققها شركات البناء غير المخطط، حتى لا تضيع سمعة دبي كإحدى أفضل بقع العالم من حيث الاستثمار العقاري، ومن المؤكد أيضا أن الإمارة ستمر بمرحلة إصلاح تشريعي وتنظيمي مكثف لتلافي تكرار الأوضاع التي أدت إلى التعثر، ستعود دبي، ولكن الأمر سيتطلب وقتا طويلا قبل التوصل إلى ذلك.
إنشرها