Author

كيف نقرأ ونستوعب الرموز الثقافية والدينية؟

|
أستاذ جامعي ـ السويد
أثار موضوع الصلبان المنحوتة على عواميد من الرخام في جامع ابن قلاوون في مصر والمنشور يوم الجمعة الماضي الكثير من الشجون، والسبب بسيط. إننا قلما ننظر إلى ظاهرة اللغة التي هي عبارة عن إشارات ورموز متفق عليها من وجهة نظر علمية وعقلانية. إننا غالبا ما نضع الإشارات إن كانت لغوية أو غيرها ولا سيما الثقافية والدينية منها في إطار التعصب والانغلاق على الآخر. وقبل أن أقحم نفسي في موضوع حساس آخر، لنأخذ أمثلة من اللغة العربية التي نزل بها القرآن. الكلمات التي نكتبها وننطقها هي عبارة عن إشارات ورموز تشبه إلى حد كبير الإيماءات والحركات الجسدية التي نستخدمها أحيانا عندما نشعر بأن اللغة لا تستطيع التعبير عما يدور في خلدنا. هذه الرموز والإشارات لا معنى لها على الإطلاق ما لم نربطها بالمحيط الثقافي الذي نفذت أو كتبت أو قيلت فيه. الثقافة تضفي على الإشارة أو اللغة المعنى وليس العكس. والثقافة وليدة زمانها ومكانها. تقاوم التغير ولكنها لا تصمد مدى الدهر. ولنأخذ عبارة «رباط الخيل». كلمتان من تسعة حروف، لفظهما وصورتهما متفق عليها بين ناطقي العربية، ولكن المعنى يعتمد على المفهوم الذي في أذهاننا انطلاقا من محيطنا وثقافتنا. والمفاهيم المختلفة لهذه العبارة، كما في الأمثلة التالية، تنبع من محيطنا الزماني والمكاني والثقافة المرتبطة بهما. فمثلا، لو قال مدرب في سباق الفروسية أعدّوا «رباط الخيل» لهرع الفرسان إلى خيولهم ووضعوا السروج استعدادا للسباق. ولو قال إمام جامع أعدّوا «رباط الخيل» في خطبة لبادر إلى أذهان مستمعيه معنى مختلف تماما، لأنهم سيضعون العبارة ضمن إطارها القرآني. ولو قال العبارة ذاتها رجل دين مسيحي في كرازة يوم الأحد لاعتقد مستمعوه أنه يهذي. ولنأخذ عبارة «الذهب والفضة». لو قال لنا رئيس جامعتنا لا تكتنزوا «الذهب والفضة» لوقعنا على قفانا من الضحك عليه. الناس اليوم تكتنز العقار والمال ولأسهم والسندات. ولكن لو نادى الإمام في خطبة يوم الجمعة وقال: «يا معشر المسلمين لا تكتنزوا الذهب والفضة» لوضعها المسلمون أيضا ضمن إطارها القرآني، أي أن الإسلام لا يسمح للمؤمن أن يكّدس الأموال، بل عليه أن ينفقها في سبيل الله. والعرف الثقافي يتغير حسب الزمان والمكان. انظر ماذا طرأ على المفهوم القرآني لعبارة «رباط الخيل». لا يمكن أن تعني الشيء ذاته على طول خط وزمان الإسلام. الكلمتان «رباط وخيل» لهما مدلولات مختلفة تماما عما كانتا عليه وقت الرسالة وما بعدها بقرون كثيرة. المسلم الذي يذهب للحرب اليوم لردّ العدوان والغزاة والمحتلين معتمدا على الدلالة والمعنى الذي كان المسلمون في زمن الرسالة وما بعدها يعتمدون عليه لخسر معركته قبل انطلاقه إليها. اليوم «رباط الخيل» تعني الدبابة والطائرة والمدفع والصاروخ والقنبلة الذرية وقد تعني شيئا آخر في المستقبل. وقس على ذلك «الذهب والفضة». هل يحق للمؤمن أن يقول إن الآية القرآنية التي تدعو إلى عدم اكتنازهما بل إنفاقهما في سبيل الله لا تخصه لأن ثروته تتألف من عقارات وأسهم وسندات وموجودات بنكية فقط؟ المسألة لا تنتهي هنا. المسألة الأساسية هي لماذا قارب المسلمون مع متطلبات العصر الحديث أمورا مثل «رباط الخيل» و»الذهب والفضة» ولم يقاربوا أمورا أخرى؟ ومن هذا المنطلق في الإمكان فهم واستيعاب إشارة الهلال التي لها مدلول ديني وثقافي لدى المسلمين لأن الهلال جزء من تقويمهم عليه يعتمدون في تحديد أشهرهم وأيام صومهم وحجّهم وأمور كثيرة أخرى. الشعوب الأخرى لا تربط «الهلال» مع ثقافتها بهذا الشكل وفي دول شمال أوروبا قلما نراه. و نجمة داود لها مدلول ثقافي مختلف لدى اليهود وغير اليهود. انظر كيف أن هذه النجمة كانت شيئا عاديا ومقبولا لدى العرب المسلمين قبل نشأة إسرائيل ولم يكترث لها المسلمون عندما كانت الجاليات اليهودية تضعها على مساكنها وأماكن عبادتها ومحال تجارتها في القاهرة والإسكندرية وبغداد ودمشق ومراكش وتونس وغيرها من الأمصار. وانظر كيف تغير المفهومان العربي والإسلامي لهذه الإشارة بعد نكبة فلسطين بحيث إن الكثيرين لا يطيقون حتى رؤيتها الآن. ونأتي الآن إلى إشارة «الصليب». هذه الإشارة شأنها شأن الإشارات الأخرى لها مدلولات تختلف حسب الزمان والمكان والثقافة المرتبطة بهما. من حيث الزمان لنأخذ الفترة منذ الرسالة وإلى اليوم. ومن حيث المكان لنأخذ الغرب «المسيحي» والأقليات المسيحية في الشرق المسلم. كثيرا ما استخدم الغرب إشارة الصليب لشن الحروب واضطهاد الآخرين من ضمنهم المسيحيون. والحروب الصليبية خير شاهد لأن أحد أسبابها كان الفتاوى التي يصدرها البابوات الغربيون الذين كانوا حينئذ يحكمون معظم أوروبا باسم «الصليب». ولم يسلم المسيحيون الشرقيون من ظلم «صليب» الغرب حيث أبيدت قرى ومدن مسيحية شرقية بأكملها لأن الشرق المسيحي كان على خلاف مذهبي مع الغرب. ولهذا رفع المسيحيون في سورية ولبنان وأماكن أخرى «صلبانهم» لمحاربة «الصليب» الغربي في حروبه الصليبية. من الخطأ مساواة مدلول «الصليب» في الغرب مع مدلول «الصليب» في الشرق. المسيحيون في الوطن العربي لم يرفعوا شارة «الصليب» من أجل الاعتداء والقهر والاستعمار والتطهير العرقي والإبادة الجماعية كما فعل الغرب. كان المسيحيون في الوطن العربي و»صليبهم» جزءا من الحضارة العربية الإسلامية وكان كثير منهم عربا. ولهذا فتحوا أبواب الشام وفلسطين، أمام العرب المسلمين القادمين من الجزيرة. فضّل المسيحيون في الهلال الخصيب العرب المسلمين على الغرب المسيحي الذي كان يحتلهم حينذاك واستقبلوا العرب المسلمين خير استقبال. العراق الذي كان معظمه مسيحيا عند الفتوحات كان أكثر فرحة من الشام وفلسطين بقدوم العرب المسلمين لأنه كان تحت نير وظلم ملوك فارس. وهكذا ترى أن للمسيحين في الشرق ولا سيما السريان منهم مساهمة فعّالة في إعلاء شأن الحضارة العربية الإسلامية في عهد بني أمية وعهد بني عباس ولا يمكن لأي منصف نكران ذلك. ومَن يستطيع أن ينكر مساهمة المسيحين العرب ولاسيما من لبنان وسوريا في النهضة العربية الحديثة. إذاً كلمة «الصليب» لها في أقل تقدير مدلولان مختلفان تماما ومن غير الإنصاف معاملة المدلولين وكأنهما واحد. العرب المسيحيون، وهم لا ينكرون صليبهم، إلا أنهم، ولا سيما الطبقة المثقفة منهم، تقول بالفم الملآن إن حضارتهم عربية إسلامية رغم أنهم ليسوا مسلمين ويعتقدون أن من واجب المسلمين كونهم أغلبية إيواءهم وعدم النظر إليهم وكأن «صليبهم» هو «الصليب» ذاته الذي حمله الغزاة الصليبيون. والغرب «المسيحي» ذاته يبدوا أنه ضاق ذرعا «بصليبه» فبدأ بمحاربته علانية غير مكترث باعتراضات الفاتيكان. فمحكمة حقوق الإنسان الأوروبية حكمت أخيرا ضد رفع الصلبان في المدارس في إيطاليا. لا بل إنها حكمت على إحدى المدارس التي تضع الصليب في الصف بدفع غرامة مادية لأم إيطالية اشتكت من أن وجود «الصليب» في الصف يؤثر في حق العبادة وحق اختيار المعتقد بالنسبة لولديها في المدرسة. وأبعد ما تكون عن «الصليب» هي الدولة في السويد التي أمرت أخيرا بتغيير أسماء العطل الدينية. فعطلة «عيد الميلاد» صار الاسم الرسمي لها «عطلة الشتاء» وعطلة «عيد الفصح» صار اسمها الآن «عطلة الربيع». وختاما، آمل أن هذا المقال سلّط مزيدا من الضوء على المفاهيم التي وردت في مقال يوم الجمعة الماضي. وإلى اللقاء
إنشرها