Author

ابن رشد «الواجب» مجرد مقولة منطقية ... والطريقة البرهانية تنطلق من المسببات إلى السبب الأول

|
رأينا في المقال السابق كيف بَيَّن ابن رشد أن محاولة ابن سينا حل مسألة ''حدوث العالم''، باعتماد القسمة المنطقية المعروفة منذ أرسطو، قسمة الموجود المفترض إلى ''واجب'' و''ممكن''، محاولة غير منطقية. ذلك أن إضافته قيمة أخرى بينهما سماها ''الممكن بذاته الواجب بغيره''، عمل يقوم على الجمع بين شيئين من طبيعتين مختلفتين. فـ ''الممكن'' لا يمكن أن يتحول إلى ''واجب'' لأن من طبيعته أنه ''ممكن'' وليس واجبا وكذلك الشأن في الواجب. وعلى هذا الأساس رأى ابن رشد أن ابن سينا وكذا الفارابي وأمثالهما قد ''غيَّروا مذهب القوم في العلم الإلهي، حتى صار ظنيا''. والمقصود بـ ''القوم'' هنا هم أرسطو ومن سار على دربه. ومعلوم أن أرسطو كان من ''الفلاسفة الإلهيين'' أي القائلين بوجود إله سماه ''السبب الأول''، إليه ترجع جميع الموجودات، أسبابا (ثواني) كانت أو مسبَّبات''. وقد أثبت أرسطو ضرورة وجود ''هذا السبب الأول'' بطريقة ''برهانية''، طريقة تعتمد، لا مجرد القسمة العقلية، بل تنطلق من المحسوس إلى المعقول، وإذا شئنا قلنا البرهنة من خلال النظام الذي في العالم على وجود مبدأ لهذا النظام، وبالتالي للعالم ككل. - انطلق أرسطو، إذن، من دراسة الظواهر الطبيعية فردَّها جميعا إلى الحركة، حركة النقلة في المكان وحركة التحول والتغير في الكم والكيف... إلخ. وبملاحظة تأثير السماء (الكواكب والنجوم) في الأرض كما يبدو واضحا من الفصول الأربعة والمد والجزر... إلخ تَقَرَّرَ (عند القدماء) أن جميع أشكال التغير والحركة في الأرض ترجع إلى الحركة الدائرية في السماء: حركة الكواكب بدورانها على أفلاكها. وبما أن لكل حركة محركا، فقد افترض أرسطو وجود محرك أول غير متحرك، لأنه لو كان متحركا لاحتاج بدوه إلى محرك وهكذا... - كيف يمكن تصور محرك غير متحرك؟ هنا أدخل أرسطو مفهوم ''العشق''، فقال إن الكواكب وجميع أشياء العالم تتحرك بدافع ''الشوق'' نحو هذا المحرك الأول الذي يقول عنه أرسطو إنه هو وحده أحق بأن يسمى ''الإله''. فهو لا يحركها كما يحرك الرجل، أو الدابة أو الآلة، شيئا من الأشياء؛ كلا، بل إن الأشياء هي التي تتحرك إليه، كما يتحرك العاشق نحو معشوقه، أو كما يتحرك الناس في معرض الفنون نحو لوحة معينة تستقطبهم جميعا! والسؤال الذي لا بد من طرحه الآن هو التالي: إذا كان الأمر كما وصفنا، فما علاقة ''المحرك الأول'' بالعالم؟ يمكن القول إنه صانعه وخالقه، ولكن وماذا تعنيه صفة ''صانع'' أو ''خالق'' ؟ - يجب التنبيه بادئ ذي بدء إلى أن هذا السؤال المركزي في علم الكلام، لم يكن مما يشغل فكر أرسطو. فـ ''المحرك الأول'' ضروري لفهم الحركـة في الكون، وقد قدم مفهوم ''العشـق'' تفسيرا (تمثيليا) للحركة التي يرجع مصدرها إلـى محرك لا يتحرك، وهي حركة انجذاب (لم يستعمل أرسطو كلمة جاذبية لاعتبارات لا مجال للخوض فيها هنا). ولكن انجذاب من؟ ونحو من؟ انجذاب الفلك المحيط أولا، وهو فلك السماء العليا، المحرك لما دونه من الأفلاك، فهو أول محرك متحرك: تقترب منه الأفلاك وتبتعد، ومن هذه الحركة تنشأ الظواهر الكونية. فتأثير الأفلاك تأثير طبيعي ''ميكانيكي''، وليس تأثيرا روحانيا كما قال بذلك ابن سينا الذي ذهب في ذلك مذهبا لا برهانيا، فقال إن الكواكب تحس وتتخيل، فضلا عن القول بـ ''واهب الصور''! - ولكن كيف تنشأ الظواهر الكونية؟ كيف تتكون الأشياء؟ وما علاقة هذا التكون بالسماء، وبالتخصيص بـ ''المحرك الأول'' الذي لا يتحرك، والذي يضعه أرسطو - كما قلنا - في مرتبة الإله؟ قلنا قبل: إن أرسطو أرجع جميع أنواع التغيرات المشاهدة في الكون إلى الحركة، ومنها تأدى إلى المحرك الأول. وعلينا أن نضيف الآن أن من جملة أنواع التغير، أو الحركة في الكون، ما نشاهده من ''كون'' و''فساد'' = (من نشوء وانقراض)، فكيف يفسر المعلم الأول هذه العملية التي تسمى بأسماء عديدة: ''الصنع''، ''الخلق''، ''النشوء''... إلخ؟ يرى أرسطو أن جميع الأشياء والظواهر التي نشاهدها ويمكن ملاحظتها، جمادا كانت أو نباتا أو حيوانا، تتألف من شيئين: ''صورة''، و''مادة'' = (الكرسي: صورة هي شكله، ومادة هي الخشب). وبما أن ''المادة'' الواحـدة تتعاقب عليها عدة ''صور'' (الخشب يكون كرسيا وطاولة وخزانة وقلما... إلخ)، فإن عملية التكون والنشوء، وعكسها الفساد والانقراض، هي عبارة عن تعاقب الصور على المواد؛ وبالتالي فالمادة هي مجرد قابل أو حامل للصور. وبما أن الخشب، بل جميع المواد، تقبل صورا دون أخرى، فالخشب المصنوع منه الكرسي يقبل أن تنخلع عنه صورة الكرسي لتترك المكان لصور أخرى مثل صورة القلم أو الخزانة... إلخ ولكنه، أعني الخشب، لا يقبل أن تحل فيه صورة المدفع ولا صورة الذهب ولا صورة أي حيوان حي... إلخ. معنى هذا أن الصور ''أنواع''، وأنها لا تحل إلا في المواد التي فيها استعداد لحمل النوع الخاص بها. - وهذا الاستعداد الذي في مادة معينة لحمل صورة معينة هو المقصود بـ'' الوجود بالقوة''، في مقابل ''الوجود بالفعل''. فالكرسي موجود بالقوة في الخشب وليس موجودا بالقوة في الماء مثلا. ومن جهة أخرى : كل شيء موجود بـ ''القوة'' في شيء آخر يحتاج إلى شيء ثالث يخرجه من القوة إلى الفعل. فالنجار يصنع الكرسي، ولكنه لا يصنعه من لاشيء، ولا من أي شيء كان، بل إنما يصنعه من الخشب الذي يحمل بـ''القوة'' صورة الكرسي، أي المستعد لأن يتحول إلى كرسي. وكذلك النار التي في الشمعة المشتعلة مثلا، فهي إذ تحرق القطن إنما تخرج النار الكامنة في القطن من القوة إلى الفعل. ولولا وجود النار بالقوة في القطن لما احترق، دليل ذلك أن النار لا تحرق إلا ما هو قابل للاحتراق، أي ما فيه النار بـ ''القوة''، كالخشب والشمع... إلخ. وعملية الإخراج من القوة إلى الفعل هي عبارة عن ''تحريك''، والتحريك لا بد فيه من محرك. وأشياء العالم بعضها محرك لبعض، على هذا المستوى أيضا. النجار يخرج من الخشب صورة الكرسي من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل، وكذلك تفعل الشمس والكواكب، فإلى حركتها يرجع تعاقب الليل والنهار والفصول والرياح... إلخ، مما يتوقف عليه ''الكون'' ''والفساد'' في مجال المزروعات، التي يحتاج بعضها أيضا إلى عمل الفلاح، كما يحتاج تكون الجنين الحيواني أو البشري إلى العلاقة الجنسية، والظروف المساعدة الأخرى، التي تخرجه من الوجود بالقوة في بويضة المرأة ومني الرجل، إلى الوجود بالفعل: مضغة فعلقة... إلخ. ما يميز هذا التصور عن ذلك الذي قال به الفارابي وابن سينا هو أن ''الصورة'' في رأيهما يهبها للمادة المستعدة لقبولها ''واهب الصور''، وهو ''العقل السماوي العاشر''، آخر العقول الفلكية ومكانه القمر! أما التصور الذي قال به أرسطو ويرى فيه ابن رشد التصور المعقول، فهو يقرر أن ''الصورة'' موجودة بالقوة في ''المادة'' نفسها، مع التنبيه إلى أن الصور أنواع: فالشجر يعطينا الشجر، والفرس يعطينا الفرس، والإنسان يعطينا الإنسان وهكذا. وبما أن الحركة في الأرض محكومة بحركة السماء فبدهي أن للسماء، بكواكبها وحركات أفلاكها، دورا ضروريا فيما يحدث في الأرض من ''كون'' و'' فساد'' ونشوء وانقراض. وحركة السماء ترجع كما قلنا إلى المحرك الأول، إذن فهو ''السبب الأول'' الذي ترجع إليه جميع الأسباب التي لها دور في خروج ما بالقوة إلى الفعل في هذا العالم. - ولما كان ''الكون'' و''الفساد'' هو، كما قلنا، عبارة عن تعاقب الصور على المادة، فإن من الصور ما هي بمثابة ''المادة'' لغيرها من الصور، كما أن من المواد ما هي بمثابة ''الصورة'' لغيرها من المواد. وإذن يمكن القول إن الصور تتسلسل صُعُدا من الأرقى إلى الأرقى منه حتى نصل أولا إلى صور لا تحتاج في قوامها ووجودها إلى مادة أصلا، ولهذا تسمى ''مفارقة'' = (للمواد)، وهي صور الكائنات السماوية (الملائكة) وهي مفارقة للمادة غير مركبة منها؛ وترتقي الصور السماوية، إلى صورة أسمى من جميعها، هي صورة الصور، بمعنى ما من المعاني. - وقولنا: ''صورة مفارقة للمادة'' معناه أنها ''عقل'': العقل يدرك الصور والمفاهيم، وبعبارة أخرى ''المعقولات''، التي يجردها مما تقدمه له الحواس من انطباعات حسية. وبما أن العقل تزداد معقولاته بازدياد ما يعرفه الإنسان، فبدهي أن العقول تتفاضل؛ وأرقاها درجة هو ما لا يحتاج إلى مادة أصلا, وهي العقول السماوية المدبرة للكواكب. وإنما سميت ''عقولا''، لأن العقل ليس هو شيئا أكثر من إدراك الأشياء، لا الأشياء نفسها، فهذا من عمل الحواس، بل إدراك النظام والترتيب الذين في الأشياء، أعني الأسباب ومسبباتها. وكلما كان الإدراك إدراكا لأعم الأسباب كان أكمل. وهكذا تتفاضل العقول السماوية كذلك، حسب قربها من أعم الأسباب الذي هو ''السبب الأول''، وهو الأسمى والأكمل: فهو المحرك الأول الذي لا يتحرك، وبالتالي ''العقل'' الذي لا يستمد معقولاته إلا من ذاته. وبما أنه مصدر الحركة فهو أيضا، من هذه الجهة، مصدر النظام والترتيب الـذي في الكون. أما النظام والترتيب الذي في عقولنا فهو ''انعكاس'' مطابق، إلى درجة ما، للنظام والترتيب الذي في الكون. إذن: كل ما في الكون يتوقف عليه فهو الحافظ لوجود العالم جملـة وتفصيلا. وفي نظر ابن رشد فهذا التصور الأرسطي هو أقرب إلى التصور القرآني، كما سنبين في المقال القادم.
إنشرها