Author

منافع الحج (1).. هدف يقود رحلة الحياة

|
حقيقة لم يدركها الكثير: الحجّ يجبُ مرةً واحدةً في العمر وعلى الفور لمن يستطيع.. لأن له أثراً يجب أن يستمرّ ويمتدّ العمر كله.. يُذكر أن الحاكم مُنسى موسى، الأول من ملوك مالي من عام 1307م إلى 1333م ، وكانت رحلته إلى الحج في عام 1325م ذات أثر كبير ونتائج كثيرة بالنسبة لتاريخ السودان الغربي اللاحق بصفة عامة، ومدينة تمبكتو بصفة خاصة.. وعندما عاد منسى موسى إلى بلاده من رحلة الحج، اصطحب معه المهندس المعماري الشهير أبا إسحاق فبنى المسجد الجامع واجتذب إلى بلاطه أعداداً كبيرة من العلماء والمثقفين وقرَّب الكتاب وافتتح الدواوين والمدارس، واقتنى أعداداً كبيرة من الكتب أثناء رحلة الحج، وأصبحت تمبكتو بفضل ذلك مركزاً حضارياً في المنطقة وفي العالم، وأصبح مسجد تمبكتو الجامع الذي بناه موسى نموذجاً لما سمي بالطراز المعماري السوداني.. وتزايد اهتمام مصر والمغرب والشمال الأفريقي والبرتغال، والمدن التجارية الإيطالية والبريطانية والفرنسية بإمبراطورية مالي ومدينة تمبكتو تحديداً، بل ذكر الباحثون أنها المدينة التي اكتشفَ أهلها أمريكا عبر رحلتين قبل كولومبوس بقرنين من الزمان، وكلّ هذا لأنه عاد من الحج وقد وضع لنفسه أهدافاً جديدة مؤثرة في حياته وحياة من حوله.. وهذه هي المنفعة التي تغيب عن كثير ممن يشهدون موسم الحج. إن الحجّ عبادةٌ شاملة لها منافع كثيرة جداً في مختلف جوانب الحياة، يقول الله تعالى: ((وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ)) (الحج:29,28,27,26). فقد جاءت الآية (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ) بالإطلاق لتشمل المنافع الدينية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية والأدبية والعلمية وغير ذلك، ولذا فإن عدم النظر إلى منافع الحجّ بهذا الشكل المتكامل يجعل منه عند الكثير مجرّد أيام لها تسمية خاصة تمرّ في كلّ عام ولا تحدث تغييراً إيجابياً ملموساً.. ولذا فإننا نهدف إلى أن نسلط الضوء على منافع الحج في إطارها الواسع الذي يخاطب الفرد والمجتمع وقد غاب عن كثير من الناس.. وأول منفعة بعنوان: هدف يقود رحلة الحياة.. عندما تنطلق رحلة الحج.. فإن المشاركين فيها يجمعهم هدف واحد ودافع مشترك وخطة عملية واضحة.. هدفهم أداء ركن من أركان الإسلام لإرضاء ربهم، ودافعهم المشترك حديث النبي: (والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) رواه البخاري ومسلم. وأما خطة رحلتهم فهي مفصّلة وواضحة حيث يبدأون في وقت محدد (مواقيت زمانية).. وينطلقون من أماكن محددة (مواقيت مكانية).. إذا تجاوزوها بلا إحرام لديهم إرشادات محددة لما يجب عمله لاستدراك الأمر.. يصلون مكة لطواف القدوم.. ثم ينتقلون إلى منى للتروية.. ثم إلى عرفات للوقوف في مدة معلومة لا يصح الحج بدون استكمالها.. ثم يفيضون إلى مزدلفة للبيات.. ثم يعودون إلى منى لقضاء أيام التشريق واستكمال شعائر حجهم بآلية وشروط واضحة في رمي الجمرات، وحلق الشعر، والهدي، وطواف وسعي الحج.. ثم طواف الوداع.. وعندها فقط.. تنتهي رحلة الحج المهيبة الرائعة.. وتبدأ رحلة الحياة مرة أخرى.. وعندها يظهر الاختلاف بين الذين شاركوا في هذه الرحلة.. فهناك من يعود ليواصل مشوار حياته المعتاد معتقداً أن موسم الالتزام بالطاعة والسير وِفق برامج واضحة نحو أهداف رائعة قد انتهى.. وهناك مَن يعود وقد أدرك المنفعة العظيمة التي تتجلى في حديث النبي عليه السلام (من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه) رواه البخاري ومسلم.. ولذا فهو يرجع من الحج ببداية لانطلاقة أمثل في حياته العلمية والعملية والدينية والعائلية.. فلا يسير ويقضي سنوات حياته إلا نحو أهداف راقية وعظيمة.. وعندما يضع الإنسان هدفا ويبذل الجهد ليصل إليه.. فإن الله يعينه.. مثلما أعانه على إنجاز هدف الحج. الحج هدف شاق وتحقيقه ليس سهلاً.. وحتى فترة ماضية قريبة كان الخروج للحج حتى من بعض مناطق المملكة يُعتبر خروجاً بلا عودة، وأذكر أن جدي لوالدي رحمه كان ممن مات في الحج.. بل إن بعض العلماء الذين وفدوا للحج من بقاع بعيدة استغرقت رحلاتهم أشهراً وسنوات.. فمن رحلات المعاصرين رحلة الشيخ صديق حسن خان في عام 1285هـ التي استغرقت ثمانية أشهر من الهند، وقبلها رحلة ابن جبير المدونة في عام 578هـ التي استغرقت سنتين وثلاثة أشهر من بلاد الأندلس.. واليوم نعلم أن بعض المسلمين يقضي عمره كله في جمع وترتيب ما يسهل له الحج.. لذا فلا يمكن بعد كلّ هذا الجهد لتحقيق هذا الهدف العظيم أن يعود الفرد فيعيش بلا هدف ولا تطلعات.. وإذا سمعت أن إنساناً قد تغيرت حياته بعد الحج.. أو قال إن الحج أثر في حياته بشكل إيجابي كبير.. فاعلم أنه قد حقق هذه المنفعة.. واختار أن يسير نحو أهداف عظيمة وكريمة في أمور دنياه وآخرته.. وحتى ندرك أن هناك فئة تعود لحياة تحركها الأهداف بعد الحج، سأذكر ما قد يتعجب البعض منه.. فقد اهتم المستشرقون بدراسة هذه الفريضة والتأثير الذي تتركه في نفوس الحجاج، وبخاصة في أوائل مرحلة الاستعمار في القرن التاسع عشر حيث كانت شريحة الحجاج تقف سدًا منيعًا أمام حركة الاستعمار. لذلك عملوا على دراسة هذه العبادة وأثرها في المجتمعات الإسلامية، ومن أشهر هؤلاء المستشرق الهولندي سنوك الذي سافر إلى مكة وكتب رسالة للدكتوراه عن «الحج»، وعلى أساسها وضعت استراتيجية في جنوب شرق آسيا لمواجهة رحلة الحج كان من بنودها: تخويف الناس من الأمراض وبث الشائعات عن انتشارها، والتخويف من خطورة الطريق بل وتشجيع القرصنة والتعويق الإداري، وقد أثرت هذه الحملات لدرجة أن الحج توقف في بلاد الهند وغيرها لفترات من الزمان.. حتى قام بعض المصلحين بجمع الناس وتجديد الحج.. إن من منافع الحج الكريمة.. أن يعود المرء وقد وضع لنفسه أهدافاً سامية يسعى إلى تحقيقها.. وأن يحوّل تلك الأهداف إلى خطة عملية وبرنامج متكامل يوصله إلى ما يؤمل.. متذكراً أن ارتكازه ورؤيته يجب أن تكون واضحة ومحددة ومنبثقة من عبادة الله واستخلافه الإنسان في الأرض.. وتأمل كيف أن الطواف إقرار عملي بأن الإنسان سيجعل نقطة واحدة هي محور كل جهوده.. وكيف أن السعي يعلمنا بصورة عملية أن يكون مسعانا في حياتنا العملية داخل حدود معينة حتى لا نضيع في زحمة الحياة وتتشتت جهودنا.. إن الذين يشعرون بقيمة إنجاز هدف الحج الرائع.. عليهم أن يحولوا هذا الشعور الجميل إلى رحلة حياة كاملة تحركها الأهداف النبيلة.. ولأن هذا الأمر ليس سهلاً ولا متاحاً للجميع.. فعلينا أن نتذكر الدافع الذي يساعدنا على تخطي العقبات والصعاب.. وهذا موضوع منفعتنا القادمة بتوفيق الله تعالى.
إنشرها