Author

في بلادي المواطن يتحمل مسؤولية الخطأ وفي الغرب تتحملها الدولة

|
حوار عابر قادني إلى كتابة هذا المقال الذي جاء متأخرا في تاريخه ولكنه متجدد في حدوث دوافعه. لم أكن أتصور مقدار هوة الفجوة في مفهوم المسؤولية الائتمانية والاستثمارية بين منظور الدولة ورجال الأعمال من جهة والمواطنين من جهة أخرى حتى دار هذا الحوار بيني وبين طلبتي في الجامعة بالأمس خلال مادة النقود والبنوك والأسواق المالية وقوانينها في الولايات المتحدة. كانت المحاضرة تدور حول دور الحكومة ومسؤوليتها في فرض الأنظمة والقوانين لكي تحفظ التوازن في السوق المالية ولكي تمنع الاعتداء ولكي تمنع الجاهل من ظلم نفسه. أنظمة تؤمن الحماية للمواطن من الاستغلال. وأنظمة تمنع البنوك والمؤسسات المالية من الدخول في مغامرات استثمارية قد تنتهي بها إلى الإفلاس. وأنظمة أخرى تتعلق بالسوق المالية. أعظم البلاد تنظيما وأكثرها تدخلا في السوق المالية هي أمريكا، رمز الرأسمالية. وما ذلك إلا لأن ضرر الحرية المالية والاستثمارية للفرد أو المنظمة هو ضرر متعد على المجتمع برمته. في محاضرة الأمس، كانت فقاعة الأسهم عندنا خير مثال تطبيقي لتوضيح هذه الفلسفة الاقتصادية لجيل المستقبل. تعود جذور فقاعة الأسهم عندنا إلى بداية التسعينيات عندما لم يكن المواطن قد اعتاد أن الدولة هي التي تعطي التمويلات وتمنح الأراضي والأموال حتى جاءت الفتوى بجواز التورق مطلقا من الشيخ ابن باز ـ رحمه الله. وكنت حينها ضابطا في سلاح المدفعية في الأحساء, فانقسم المعسكر عندنا تقريبا إلى قسمين, قسم المقرضين ''الديانة'' وهم القلة القليلة وقسم المقترضين ''المستدينين'' وهم الغالبية العظمى. وكان ''الديانة'' يبيعون السيارة بالتقسيط بضعف سعرها إلى أجل –عادة عام إلى 18 شهرا- ويشترطون كفيلا غارما. (وفي الواقع فإن هذا الكفيل عادة ما يصبح هو المسعر لسعر الفائدة في التمويل، فكلما زادت الثقة بالكفيل انخفض هامش الربح - أي سعر الفائدة- أي أنهم أطردوا العلاقة بين المخاطرة وسعر الفائدة في تلك السوق البسيطة). وأذكر حينها أنني قلت بحرمة هذه المعاملة وخروجها عن فتوى الشيخ ابن باز, لأن ''الديانة'' يشترون السيارات من أجل بيعها بالتقسيط لأشخاص يعلمون أنهم يريدون توريقها. ولو أن أحدهم أراد شراءها من ''الديانة'' بالكاش لما باعوه. وهذا مما يُخرج هذه العملية التبادلية من التورق الذي أجازه الشيخ ابن باز إلى حيلة تبادلية بين نقد ونقد بفضل ونسأ دخل بينهما سيارات. فالتورق هو شراء سلعة من أجل ثمنها من تاجر سلع يبيع بالنقد وبالتقسيط (كمعرض سيارات مثلا) لا تاجر نقد لا يبيع إلا بالتقسيط كالبنوك. وعلى كل حال، فسرعان ما دخل بنك في هذه السوق ليستحوذ على معظم الكعكة، وأي كعكة كانت.. كعكة المآسى والآلام. كانوا جنودا قد أرهقتهم الديون، وأثقلت كواهلهم عائلاتهم الكبيرة الممتدة في كفالة الأخ والعم والجد وتوابعهم، فقصرت رواتبهم عن سداد ضرورات حاجياتهم فكيف بالفوائد المركبة التي يفرضها عليهم ''الديانة''. كان دخول البنك في سوق ''الديانة'' آنذاك ملاذا لكثير من العسكر, خاصة هؤلاء الذين استدانوا من ''الديانة'' والذين اعتقدوا أن البنك كالدولة، جهة مانحة لا تعمل من أجل تحقيق الربح ولا تلاحق مواطنيها في سداد مستحقاتهم. ولم تطل المدة بالبنك حتى أدرك يقينا أن زبائنه لا نية لهم في تسديد ديونهم التي عليهم للبنك ولم يعد الكفيل الغارم رهنا مجديا. فلجأ البنك بمساندة الدولة إلى رواتب العسكر فارتهنها، يستقطع منها حقوقه وبدأت منذ تلك الفترة نظام رهن الراتب الذي لا أعلم أن دولة من دول الغرب تسمح به. ولكن السؤال هنا من المسؤول عن إقراض زيد وعبيد وبكر أموالا لا يحسنون إدارتها مقابل ارتهان رواتبهم على الرغم من أن أكثرهم في عرف الشرع مساكين - والمسكين الذي يجد قوت يومه - وعلى هذا التعريف فكثير من السعوديين ذوي الدخل المحدود المنخفض يدخلون ضمن فئة المساكين. فهل نحمل المسؤولية على المواطن أم على البنك الذي يبحث عن الفائدة؟ في أمريكا الدولة هي المسؤولة لأنها هي التي لديها الخبرة وتملك الخبراء, وهي موضع الثقة, فهي من تعمل للمصلحة العامة, وهي المسؤولة عن منع استغلال القوي للضعيف - والجاهل ضعيف. وأما عندنا في بلادنا فالمواطن البسيط هو المسؤول. والعجيب أن المجتمع يوافق على ذلك ويؤيده - وهذا ما لمسته في حواري مع الطلاب في المحاضرة، فقد تشربوا مفهوم تحميل المسؤولية على المواطن لا على الدولة. لذا فقد كان من الصعب عليهم أن يفهموا المحاضرة المبنية على منهج أمريكي التي تؤكد أن الدولة هي المسؤولة عن حماية المواطن من الناحية الائتمانية والاستثمارية. إن رهن الراتب قد وفر استثمارا آمنا للبنوك أغناها عن تمويلات المشاريع المنتجة التي لا تخلو من مخاطرة. إن ارتهان الراتب هو سبب تخلف البنوك وتكاسلها عن جوهر عملها, فجوهر عمل البنوك هو كونها مركزا لجمع وتحليل المعلومات الائتمانية. ورهن الراتب قد أعفى البنوك من دورها ومن تحمل مخاطرة الائتمان. فلو لم يكن هناك رهن للراتب لما أقرضت البنوك عامة الشعب ولما تشكلت فقاعة الأسهم عندنا. في طفرة الأسهم عندما انفجرت تخلى الجميع عن المسؤولية وحُمّلت على المواطن الغريب على ثقافة الائتمان والجاهل بالاستثمار. إن المواطن جاهل في هذا الباب ولو كان مثقفا، والبنك منظمة ربحية لن تتخلف عن الركب ورجل الدين قد وجد فرصة عمل, فالصحيح إذن أن المسؤولية كلها تقع على الدولة، فالجميع أبناؤها وأغلاهم عندها أكثرهم حاجة إليها. فلم تم الوقوف بجانب البنوك دون المواطن؟ وقد قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ''اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم''. إن السيناريو الصحيح لفقاعة الأسهم هو أن الدولة مكنت البنوك من ارتهان الرواتب فتخلت البنوك عن دورها الرئيس في البحث والتحري والتقصي عن طالب التمويل قبل إعطائه التمويل لحل مشكلة ما يسمى Adverse Selection، ومن جهة أخرى لم تبال البنوك، بل شجعت المواطن على وضع التمويل في استثمار ذي مخاطرة عالية ألا وهو سوق الأسهم في طفرتها, أي أن البنوك عملت على إيجاد مشكلة Moral Hazard بدلا من تفاديها. ولو أن البنوك لا يمكنها ارتهان الراتب - والراتب هو دم المواطن عندنا خاصة، لعدم وجود ثقافة تغيير العمل - لما تسابقت البنوك على تمويل عامة الناس ولما تنامت السيولة في سوق الأسهم ولما وصلت سوق الأسهم إلى طفرتها التي وصلت إليها ولما جذبت إغراءاتها كثيرا من رجال الأعمال الذين لم يجدوا بدا من دخول سوق الأسهم الذي كان حطبه ووقوده الذي أشعله ويغذيه التمويلات التي حصل عليها المواطنون مقابل رهن رواتبهم. وهكذا وبعد أن هلكت استثمارات المواطنين في سوق الأسهم وأصبح معظم دخل المواطنين عندنا مرهونا لدى البنوك بفوائد مرتفعة لا تزال البنوك تواصل استغلالها للمواطن في ظل التجاهل العام. فتأبى البنوك أن تعيد جدولة هذه الديون بأسعار الفائدة المنخفضة الآن. ويرفض كل بنك أن يسدد دين زيد وعبيد عند بنك آخر حتى يرتهن راتبه الذي هو مرهون في الدين الأول، فقطع بذلك السبيل على إعادة التمويل للمواطن بسعر الفائدة المنخفضة الآن، والحمد لله رب العالمين. وتراضت البنوك فيما بينها ضمنا على ذلك ولم يتم تحريك ساكن وكان في الإمكان أن تجبر البنوك على قبول التعهد للبنك الذي سيسدد الدين بأن تنقل إليه رهن الراتب, وهي مسألة لا تحتاج إلى كثير عناء، وهو مطبق بصورة مشابهة في تمويلات المشاريع الحكومية. ولكن البنوك لا تريد التخلي عن تمويلاتها التي مولتها في الماضي بأسعار فوائد عالية, والدولة لم تبذل جهدا في تصحيح الخطأ.  يا ليتنا ننشغل بعيوبنا ومشكلاتنا عن عيوب ومشكلات غيرنا. الأزمة العالمية ليست قضيتنا بل قضية غيرنا ومع ذلك كم من آلاف المقالات والندوات والبحوث التي تشفت بالغرب وبحماقته وتشدقت وأشادت بحزمنا وحنكتنا. ما لنا ومال الأزمة المالية العالمية. نحن في السعودية في أزمة مالية عميقة منذ 2006 لا يهتم بها أحد لأنها قد حملت على المواطن دون غيره. فهلا نقف وقفة صدق ونتأمل هل هي حنكة وحزم أم استغلال لجهل المواطن وأنانية من البنوك؟ ولننظر من الذي يدفع ثمن هذه الحنكة والحزم المزعومة ومن الذي يجني ثمارها.
إنشرها