Author

«... غيَّروا مذهب القوم في العلم الإلهي، حتى صار ظنيا»

|
عرضنا في المقال السابق الكيفية التي حاول بها كل من ابن سينا والغزالي التغلب على مشكلة ''المرجح'' في البرهنة على ''حدوث العالم'': الأول بإضافة قيمة ثالثة تتوسط المقولتين المتعارضتين، ''الواجب والممكن''، سماها ''الممكن بذاته الواجب بغيره''، أما الثاني فقد فعل الشيء نفسه على مستوى مقولات المتكلمين، إذ أضاف بين الإرادة وموضوعها قيمة ثالثة، سماها ''التراخي'' : ''تراخي الإرادة''، على مذهب الأشاعرة. أما ابن رشد –الذي سنعرض نقده لهاتين الإضافتين في هذا المقال- فهو يرى أن كِلا الرأيين متهافت: فقول ابن سينـا بـ''الممكن بذاته الواجب بغيره''، قول متناقض متهافت، لأنه يجمع بين شيئين متقابلين، كل منهما من طبيعة مختلفة: فـ ''الممكن'' من طبيعته أنه يمكن أن يوجد وأن لا يوجد. بينما ''الواجب'' من طبيعته أنه ''الضروري الوجود''. والقسمة العقلية تقتضي إما أن يكون الشيء ممكنا، وإما ضروريا، وإما ممتنعا. ولا يمكن أن يكون ''الممكن'' واجبا، بذاته أو بغيره، إلا إذا انقلبت طبيعة الممكن إلى الواجب، وهذا إلغاء للممكن! أما احتجاج الغزالي بـ ''تراخي'' الإرادة، فاحتجاج فاسد في نظر ابن رشد. أولا، لأن الإشكال سيبقى: ما الداعي إلى ''التراخي''؟ هل هناك عامل ما، خارجي أو داخلي، وهذا يعود بنا إلى الحاجة إلى ''المرجح''؟! ثانيا، يجب أن نتفق على معنى الإرادة نفسها، لنرى هل يعقل القول بتراخيها أو لا يعقل؟ يقول الغزالي: الإرادة ''صفة من شأنها تخصيص الشيء عن مثله''، فالإرادة الإلهية خصصت وجود العالم بدل عدمه! ويعقب ابن رشد متسائلا: ولماذا كان هذا التخصيص؟ ثم ما الإرادة؟ أليست هي شوق إلى فعل شيء يستكمل به المريد، أي يلبي به حاجة في نفسه؟ وهل يجوز مثل هذا القول في حقه تعالى؟ وأيضا ما معنى ''المِثل'' هنا؟ وهل ''الوجود'' مِثْلٌ لـ ''العدم''، أم أنه مقابل له؟ ويدور نقاش طويل عريض حول هذه المسألة. ومن المشاكل المتصلة بهذه المسألة، مسألة ''حدوث العالم''، مشكلة ما عبرت عنه الأفلاطونية المحدثة بـ ''صدور الكثرة عن الواحد''! وهذه مشكلة تنتمي إلى الإرث الفلسفي الذي انتقل إلى الإسلام من التيارات العرفانية والجدال الفلسفي في العقيدة المسيحية، ولم يكن لها حضور يذكر في فضاء علم الكلام. والمشكلة تطرح هكذا: الله واحد لا شريك له، بسيط لا تركيب فيه؛ والعالم متعدد كثير، فكيف يمكن تصور صدور الكثرة عنه، والحال أنه كان قد تقرر عندهم أن ''الواحد لا يصدر عنه إلا واحد''؟ لحل هذا الإشكال ظهرت نظرية الفيض، قبل الإسلام بقرون. تقرر هذه النظرية، كما صاغها الفارابي وأخذها عنه ابن سينا، أن واجب الوجود (الله) بـما أنه عقْلٌ محض، أي لا تخالطه المادة، بل هو مفارق لها تمام المفارقة، فهو دائم التعقل لذاته: عقَل ذاتَه، ومن عقْلِه ذاتَه فاض عنه عقلٌ ثان. وهذا العقل الثاني: عقَل مبدأه، أي العقل الأول، ففاض عنه عقل ثالث؛ وعقل ذاته، ففاض عنه نفس وجرم فلكي. وتسلسل الفيض هكذا إلى العقل العاشر الذي محله فلك القمر، يشرف على ما تحته، أي على الأرض التي تشكلت العناصر الأربعة فيها (التراب والماء والهواء والنار) من حركة الأفلاك. وباختلاط تلك العناصر بتأثير حركة الأفلاك تكونت الأجسام. وعندما يصبح جسم منها مستعدا ليتخذ صورة كائن من الكائنات الأرضية، جمادا أو نباتا أو حيوانا أو إنسانا، أفاض عليه العقل العاشر صورة ذلك الكائن، ومن هنا سموه ''واهب الصور''، وهو ''جبريل'' في الخطاب الديني. يعترض الغزالي على هذا التصور، ويقول إنه تصور يسلب الإرادة عن الله، ويجعل الأمر أشبه بصدور الضوء عن الشمس، وهو فعل طبيعي قسـري لا إرادي. هذا من جهة ومن جهة أخرى، فنسبة الكثرة إلى العقل الفائض الأول لكونه عقَل ذاتَه وعقَل مبدأه أمرٌ فيه تحكم! وأيضا: لماذا تسلسلت العقول؟ ولماذا وقفت عند العاشر؟ ثم ما دام مصدر الكثرة هو التعقل فلماذا لا ننسبها إلى العقل الأول ذاته (الله)، وهو الذي يقولون عنه: إنه ''عقل وعاقل ومعقول''؟ إلى غير ذلك من الأسئلة التشكيكية التي يطرحها الغزالي بصيغ مختلفة، وبكثير من السخرية في بعض الأحيان! أما ابن رشد فهو يعترض بشدة على نظرية الفيض جملة وتفصيلا، ويقول عنها إنها دخيلة على الفلسفة، وأنه لم يقل بها أحد من القدماء! ثم يتساءل باندهاش: ''والعجب كل العجب كيف خفي هذا على أبي نصر(الفارابي) وابن سينا لأنهما أول من قال بهذه الخرافات، فقلدهما الناس، ونسبوا هذا القول إلى الفلاسفة''، وأيضا: ''والذي سلك هذا المسلك من الفلاسفة هم المتأخرة من أهل الإسلام لقلة تحصيلهم  لمذهب القدماء''، ''ولذلك  من رام من هذه الجهة إثبات الفاعل فقوله مقنع جدلي لا برهاني، وإن كان يظن بأبي نصر وابن سينا أنهما سلكا، في إثبات أن كل فعل له فاعل، هذا المسلك. وهو مسلك لم  يسلكه المتقدمون. وإنما اتبع هذان الرجلان فيه المتكلمين من أهل ملتنا''. ويخاطب فيلسوف قرطبة قارئه قائلا: ''فانظر هذا الغلط ما أكثره على الحكماء (في حقهم)! فعليك أن تتبين قولهم هذا: هل هو برهان أم لا؟. أعني: في كتب القدماء، لا في كتب ابن سينا وغيره، الذين غيَّروا مذهب القوم في العلم الإلهي، حتى صار ظنيا''. تلك هي شكوى ابن رشد التي تتكرر مرارا، الشكوى من كون الفارابي وابن سينا عدلا عن الطريقة البرهانية في ''العلم الإلهي''، واتبعا طرقا جدلية أخذوها إما من المتكلمين وإما من غيرهم من ''الضعفاء'' في الفلسفة، فجاءت أقاويلهم قابلة للرد الجدلي والعناد السفسطائي، مما مكن الغزالي من التطاول عليهم: ''فأبو حامد لما ظفر هاهنا بوضع فاسد منسوب إلى الفلاسفة، ولم يجد مجيبا يجاوبه بجواب صحيح، سُرَّ بذلك وكثَّرَ المُحالات اللازمة لهم''. لا يعرض ابن رشد ''الطريقة البرهانية'' مرة واحدة، بل هو يحيل باستمرار إلى ''موضعها''، إلى كتب أرسطو. ومع ذلك فهو يجد نفسه مضطرا، من حين لآخر، إلى إعطاء صورة مجملة عن هذه الطريقة، حسبما يتطلبه السياق. ومما كتبه ابن رشد في أماكن متفرقة من كتابه ''تهافت التهافت''، وبالرجوع كذلك إلى أرسطو ذاته، سنعرضها بقول عام ومجمل في المقال القادم.
إنشرها