Author

اللائحة التنفيذية لنظام المرافعات.. هل لها ضرورة؟

|
لقد قرأنا في الصحف السيارة أن مشروع قانون ( نظام ) المرافعات الجديد قد نص على أن هناك لائحة تنفيذية ستصحبه، وأنها ستصدر بقرار من وزير العدل، ونحن نرتجي من سماحة وزير العدل الجديد- فهو والشهادة لله جَعَل آمالنا جدُّ عراض في تحسين سير سلطة القضاء.. لأنه منذ أن تسنّم منصبه هذا.. وعزمه لا يَني عن اتخاذ أي قرار فيه مصلحة لسلطة القضاء والعدالة في هذه الديار، فهو رجل شرع وقانون، وكان قاضياً.. لذا.. فهو قد سَبَر عن قرب كثيراً من المثالب التي كانت مثار عناء لطلاب العدالة من ذوي الخصومات- أقول.. نرتجي أن يُوكِلَ معاليه صياغة اللائحة التنفيذية إلى رجال قانون لهم طويل باع في صياغة القوانين واللوائح.. أقول.. هذا رغم لائحة لا لزوم لها كما لا يسوغ أن يعلق تطبيق النظام على صياغتها والانتهاء منها.. إذ إن صدور لائحة من قبل لقانون (نظام) المرافعات الساري الآن كان بدْعاً في هذا الضرب من التشريعات.. إذ لم يُعْرَفُ من قبل أن صدرت لائحة تنفيذية لقانون مرافعات، والواقع أن نصوص قانون (نظام) مرافعاتنا الساري الآن كانت واضحة.. بيّنة المعاني، خَليّة من أي إبهام.. وهو ما يَشي بعدم الحاجة إلى لائحة تنفيذية تبدي للملأ طرائق تنفيذها، ومع هذا فقد نص القانون في المادة (264) على أن يصدر وزير العدل لائحة تنفيذية، وقد تولى صياغة هذه اللائحة لجنة من مستشاري وزارة العدل في عهدها الذي وَلّى.. ثم صدرت بقرار من الوزير السابق..، ويا ليتها لم تصدر.. فقد أتت هذه اللجنة التي صاغت اللائحة بإجراء فيه عجب من عجب،.. فهذه اللجنة لم ترعَوِ عن (إدغام) مواد اللائحة هذه مع نصوص القانون ( النظام)، أي بإلحاق كل مادة من موادها بالمادة التي خصصت لتطبيقها من مواد القانون (النظام)، فبدت ما أوردته اللائحة التنفيذية من أحكام لتنفيذ كل مادة من مواد النظام وكأنه فقرة من فقرات المادة التي أوردها القانون نفسه (أي النظام)، وذلك بعد إعطائها رقماً أو حرفاً معيناً، وهذا يعنى أن اللائحة لم تصدر مستقلة بتبويبها وأحكامها، كما هو متبع في العادة، وقد كان هذا نهجاً له خطره، فأي امرئ يقرأ قانون (نظام) المرافعات الساري الآن، يخَالُ أن الأحكام التي أوردتها اللائحة التنفيذية التي صدرت بقرار من وزير العدل، وكأنها جزء لا يتجزأ من المواد التي أوردها النظام (القانون) الذي صدر بمرسوم ملكي، وقد كان هذا له آثار جد بائرة على ما أتى به نظام المرافعات الساري الآن، من إصلاح لماذا؟ لأن أي عارف بأحكام القانون والشرع يدري أن اللائحة التنفيذية تبتغي تبيان طرائق تطبيق النظام Mise en application.. إلا أن من يستقرئ تلك اللائحة التنفيذية يراها وقد ظعنت بعيداً عن مرامها، فالغلبة الغالبة من نصوصها أتى سرفاً بأحكام تفسيرية لنصوص كثيرة من نظام المرافعات، رغم وضوحها وجلاء معانيها، ومن ثم فإنها تبدَت وكأنها لائحة تفسيرية وليست تنفيذية، وأغلب الظن أن الأمر إنْبَهَم على واضعي اللائحة وخاصة أنهم من خريجي كليات الشريعة.. أى أنهم لم يدرسوا القانون ولم يمارسوا العمل القانوني.. أي لا خبرة لهم بصياغة القوانين واللوائح، بل وأنفوا الاستعانة برجال قانون عارفين بصياغة القوانين، لذا.. فقد تشابه هذا الأمر على صائغي تلك اللائحة، ومن ثم فهم لم يمايزوا بين ما هو تنفيذي وما هو تفسيري، فأتت جُلُّ نصوص اللائحة بأحكام تفسيرية، وليس تنفيذية، بل أنهم هاموا عن حقيقة تقطع بأن ما أتوا به من أحكام تفسيرية لا تقره بدائه القضاء.. لأن التفسير لنصوص القانون (النظام) يأتي عبر اجتهادات القضاة التي تستقر طبقاً لما يُعرض عليهم من أقضيات تحدوهم إلى الأخذ بتفسير دون آخر لنص معين في القانون، وتبعاً لما انداح فيه من معانٍ تحتم العدالة الأخذ بها. - وحتى لو أغضْينا عن نهجها التفسيري، فإن اللائحة اجترأت على الإتيان بنصوص ضلت ضلالاً بعيداً عن نصوص قانون (نظام) المرافعات، بل هتكته، الأمر الذي أورث إبهاماً وزلزلة وإرباكاً في إجراءات التقاضي، وهو ما أضر بأصحاب الخصومات.. وهاكم على ما أقول مثالين: - الأول هو الفقرة (3) التي ألحقتها اللائحة بالمادة (62) من نظام المرافعات، والثاني هو الفقرة (2) التي ألحقتها اللائحة بالمادة (208) منه.. وهانحن نوضح ما نقول حول هذا تباعاً: (أ) - الفقرة (3) الملحقة بالمادة (62) من النظام: - إن نص المادة (62) هو من أهم ما أتى به قانون ( نظام ) المرافعات الشرعية الساري الآن من إصلاح المجال، فقد قضى على عيوب كثيرة في إجراءات المرافعات التي كانت سارية من قبل فهو يقول (تكون المرافعة شفوية على أن ذلك لا يمنع من تقديم الأقوال والدفوع في مذكرات مكتوبة تتبادل صورها وتحفظ أصولها في ملف القضية مع الإشارة إليها في الضبط وعلى المحكمة أن تنظر الخصوم المُهَلْ المناسبة للإطلاع على المستندات والرد عليها كلما اقتضت الحال ذلك). - لقد خال كل قارئ لما أتت به المادة (62) من النظام ( قبل صدور اللائحة التنفيذية).. أن من أهم المشكلات التي كانت نَكَلاً على أصحاب القضايا أثناء المرافعات قد ولّتْ دون أَوْبة.. ونعنى هنا تلك التي تتمثل في لزوم كتابة كل المرافعات الكتابية (أى المذكرات أو الصحائف الخطية) في (محضر الضبط).. شأنها في ذلك شأن المرافعات الشفوية التي يدلي بها الأخصام في الجلسة.. فقد كان إلزام القضاة في السابق بهذا الإجراء يورث إهداراً جد كبير للوقت وإطالة.. لهذا فإن كل ذي شأن رأى في النص الذي أتى به نظام المرافعات الجديد.. تيسيراً كبيراً للمترافعين وأصحاب القضايا.. وهذا بدوره يعد إصلاحاً جد محمود لهذا الجانب من إجراءات السير في نظر القضايا.. لأنه يسرع بها ويختصر وقتها. - ومن يتدبر هذا النص يُلفيه واضح المنطوق.. غير متشابه في بيانه ومدلوله..، إذ أبان دون إبهام أن كل قضية يكون لها ملف خاص بها، تودع فيه جميع المرافعات، أي تلك الشفوية التي كتبت أثناء الجلسة في الضبط الخاص بها.. أي بالقضية.. وكذلك المرافعات المكتوبة.. أي المذكرات.. وهذه الأخيرة يتبادل صُوَرها الأخصام ليرد الواحد منهم على الآخر حتى قفل باب المرافعة.. وما يلاحظه كل قارئ لنص هذه المادة هو أنه اطّرَحَ إلزام القاضي بكتابة هذه المذكرات (أي المرافعات المكتوبة) في محضر ضبط القضية .. متبعاً في ذلك قاعدة معاكسة.. تقول بلزوم ضمها فقط – دون كتابتها في المحضر – لملف القضية مع الإشارة إليها فقط في محضر الضبط ..، وبهذا تكون كل قضية مستقلة، بكل ما اشتملت عليه، من مرافعات ووثائق وخلافه (ولهذا.. فإنها لن تتداخل مع قضايا أخر – كما هو جَارٍ الآن في محضر الضبط المعروف الذي سـار ويسير عليه القضاء إلى الآن مع الأسف.. وسنرى سبائب ذلك بتفصيل في آتي السطور).. وبدهي أنه يلزم في هذه الحال إيجاد نسخة ثانية لملف القضية بكامله يُحتفظ به في المحكمة – عبر تصوير ما ورد فيه – وذلك في حال إرسال القضية إلى محكمة التمييز. - إن ما نصت عليه المادة (62) هو النهج تسير عليه محاكم الدنيا بجهاتها الأربع، وفي ركابها سار عليه أيضاً ديوان المظالم عندنا.. فهو يأخذ به منذ أن نشأ... فالقاضي أو الدائرة هناك، لديها محاضر تتمثل في دفاتر صغيرة يخصص الواحد منها لقضية معينة، حيث لا يُدَوَّن فيه إلا ما أدلى به المترافعون شفاهة من أقوال أثناء الجلسة، أما المرافعات الكتابية فإنها تُضَمُّ لملف القضية. - نقول.. فرحنا عندما قرأنا هذا النص، لكن الفرحة انقلبت ترحة بعد أن خاب الأمل.. مع الأسف إثر صدور اللائحة التنفيذية .. فقد بهتَتْنَا هذه بنص هو مثار عجب..، ونعني هنا الفقرة التي أدغمتها في نص المادة (62) وأعطتها رقم (3).. وآية ذلك.. هو أن أي قارئ لها يرى إلزامها (بأن يرصد في الضبط ما اشتملت عليه المذكرات من أقوال ودفوع مؤثرة في القضية... إلخ)، وقد يتساءل المرء .. عن مثار العجب هنا؟.. الجواب بيّن... وفحواه... هو أن نص هذه الفقرة قد أعاد الأمور جَذَعة .. أي إلى سالف عهدها.. فما أتى به هو تكرار لما كانت تطبقه المحاكم عندنا إعمالاً لما ورد في المادتين 108 و110 من نظام تركيز مسؤوليات القضاء الشرعي الصادر في عام 1372، فنص المادة (108) يلزم (بضبط جميع الدعاوى والمرافعات والإقرارات والانهاءات وما ماثلها من كل ما ينظر لدى المحاكم من ابتداء المعاملة حتى انتهائها).. والمادة (110) ألزمت أيضاً (برصد جميع الدعاوى في الضبط ... إلخ). - بينما الواقع يقول إن هاتين المادتين قد تم نسْخُهُما ضمناً بنص المادة (62) من نظام المرافعات الجديد.. فهذه الأخيرة تتعارض في مدلولها وفيما أتت به من أحكام مع ما قررته المادتان المذكورتان من نظام التركيز.. ولأنها هي الحاوية للنص الجديد.. فإنها هي التي يلزم تطبيقها شرعاً.. فالنص الجديد ينسخ القديم إذا ما تعارض ضمناً معه.. وهذا يعني بدوره أن اللائحة التنفيذية ..، أنها كانت ستصدر بقرار وزاري.. إلا أن هذا لم يزع صائغيها عن الاجتراء على إحياء أحكام المادتين المنسوختين ضاربة في ذلك صفحاً عما ورد في نص المادة (62) الواردة في نظام المرافعات، الذي صدر بمرسوم ملكي، وفي هذا ولا مرية زيْغ ومروق على الشرع والنظام.. فاللائحة التي تصدر من إدارة أو وزارة – حتى ولو كان ذلك بتفويض من النظام نفسه - لا يجوز لها أن تعتلي على هذا النظام أي القانون.. ومن ثم لا يجوز لها هتكه.. بل يلزمها الجثوّ له .. فهو – أي – النظام - يصـدر بمرسوم ملكي من ولي الأمر.. أي من أعلى سلطة في هذه الديار، كما أنه وقبل صدوره أو صدور تعديل له يراجع في مقام مجلس الوزراء ولجانه المختصة.. بعد أن روجع ودرس من أعضاء مجلس الشورى، كما أنه لابد من نشره – كي يبدأ سريانه - في الجريدة الرسمية (أم القرى). - لذا فإنه لا يُباح لقرار وزاري أن يَتَزَاوَرَ عنه بحكم مخالف، أو يضيف إليه أمراً جديداً.. لماذا ؟.. لأن النظام أو القانون شرعاً هو محض أوامر يصدرها ولي الأمر غايتها تنظيم مصالح الناس، وطالما أنها لم تتعارض لا مع القرآن ولا مع السنة.. فإنها تعد من أحكام الشرع أو الشريعة المطبقة في هذه الديار.. فهذا ما نزع إليه فقهاء الشريعة مجمعين.. فهم يرون أن أوامر الإمام التي بُنيت على المصالح وظافرت ما تغياه الشرع من مقاصد تُحْدثُ حكماً شرعياً.. شاهدنا في هذا ما جنح إليه الإمام ابن القيم الحنبلي.. حين قال: (... إن الشريعة - أساسها الحكم بالمصالح.. فهي عدل ورحمة ومصالح وحكم.. فكل ما دخل في هذا هو من الشريعة)، ومن العجب أن المحاكم تطبق نص اللائحة.. وتحجم عن تطبيق نص نظام المرافعات.. وفي هذا ولا مرية.. غواية عن أحكام الشرع.. لأن النظام بصدوره من ولي الأمر لينظم مصالح الناس في هذا المجال.. هو حاوٍ في الواقع لأحكام شرعية تُعد من صلب الشرع المطبق في هذه الديار مثلها في ذلك ما أتى به فقهاء المذاهب في الشريعة وتطبقه المحاكم في قضائها. - إن الذي يصير الآن هو أن القضاة يطبقون ما تسرمد عليه العهد ودَرَجْ عليه الوضع في نظر القضايا قبل صدور النظام الجديد للمرافعات.. أي أنهم ازدروا – مع الأسف – ما أتى به النظام.. غير مدركين تغييره الأمور إلى الأصلح والأجدى لطُلاّب العدالة في هذا الجانب.. إذ تعاشوا عن حقيقة تقول إن الأحكام الواردة في المادتين 108 و110 من نظام تركيز مسؤوليات القضاء.. قد نُسخت ضمناً بالمادة (62). - لقد لاحظتُ تَذمُّر وشكاة.. أصحاب القضايا من استمرار لزوم كتابة كل المرافعات في محضر الضبط غير مدركين أن مآبه كان خطأً فاحشاً تهاوى فيه واضعو اللائحة.. فقد صاغوا نص هذه الفقرة وهم باهلون عما هم فيه من خَطَلْ.. ثم أدغموه مع المادة (62) من نظام المرافعات.. أي أنهم وضعوه وكأنه فقرة من فقرات هذه المادة.. الأمر الذي بدا وكأنه جزء منها..، وقد حداني هذا.. إلى سؤال أحد القضاة عن سبب إهدارهم لنص النظام الصادر بمرسوم ملكي والانصياع إلى ما قررته اللائحة الصادرة بقرار وزاري؟.. فقال: إنها: إنها الأوامر.. لكنه لا يدري أن ما آوى إليه هو وغيره من القضاة حول هذا.. باطل في الشرع.. الأمر الذي يُلْزمه بالامتناع عن تطبيقه لإهداره ما حتم به النظام.. لأن على اللائحة الجثُوَّ للنظام الذي يعتليها شرعاً وقانوناً.. بل والالتزام به، لانكْثهِ بقواعد مغايرة.. وإلا فإنها تكون بذلك قد راغت عن مبدأ شهير.. مستقر في الفقه والقضاء.. وهو ما أطلق عليه مبدأ المشروعية La légalité.. وعليه فإنه إذا صدرت لائحة من إدارة معينة حوت نصوصاً على هذا الوجه، فإن كائناً من كان يقوى.. على الطعن فيها أمام ديوان المظالم.. كي يُصْدِرَ حكماً بإلغائها.. بل إن من أصدرها ملزم شرعاً وقانوناً بسحبها،.. أقول هذا لأن الناظر إلى الفقرة (3) وكذلك الفقرة «1»الملحقتين بالمادة «62».. يراهما تتكلمان فقط عن الضبط (أو محاضر الضبط.. دون ذكر للملف ).. والثابت مما درج عليه الحال بعد صدور هذه اللائحة، أن الضبط الذي عنته الفقرتان المذكورتان.. هو ذلك الدفتر الضخم المعروف والذي عرفته المحاكم منذ أن نشأت والذي يُنظم بطرائق أرمس عليها الدهر.. في التبويب والترتيب والكتابة.. ولا عجب.. فهو قد تحدر علينا من عهود آل عثمان،.. ومع هذا فإن المحاكم - مع الأسف – ما ونَتْ سادِرَة في الأخذ بهذا الدفتر وبالطرائق نفسها.. وسبائب ذلك بالطبع هو ما أوردته.. الفقرة (3).. من اللائحة.. – إثر ضم نصها كما ذكرنا – إلى نص المادة (62).. إذ أدى هذا إلى إيهام المحاكم – بل وكل ذي شأن – بأنه الضبط الذي عهدوه منذ نشأة المحاكم..، بينما الضبط الذي يعنيه النظام في المادة (62) في الواقع هو ما يُدوّنُ فيه فقط من أقوال فَاهَ بها الأخصام شفاهة وليس غير،.. ويشار فيه أيضاً إلى المذكرات المقدمة بعد أن تُعطى الرقم والتاريخ فضلاً عن ذكر عدد صفحاتها.. وما يفيد استلامها.. إلى غير ذلك من معلومات تثبت وتوثق استلامها وضمها للملف، أي لا لزوم ولا ضرورة لكتابة كل المذكرات أو ما يؤثر منها في الضبط فهي موجودة وجوداً له صفة رسمية في ملف القضية. - إن الضبط الذي عناه نص المادة (62).. من النظام.. – ونحن هنا نكرر ما قلناه - هو محض دفتر عادي، غلافه وأوراقه لها الصفة الرسمية.. يخصص فقط للقضية التي سجلت فيه مرافعاتها الشفهية، ومن ثم يغدو جزءاً من ملف القضية.. الذي احتوى أيضاً على المرافعات المكتوبة (أي المذكرات).. أي ليس ذلك المجلد الهائل طولاً وعرضاً.. والذي.. يُهيل فيه كاتب القاضي كتابةً بيده كل مرافعات القضية الشفهية والكتابية، ونصوص الوكالات.. وتغييرها من قبل الأخصام.. وما إلى ذلك من غَثِّ الأمور الذي لا ضرورة ولا لزوم لكتابته. - لكن الذي لا يغرب تبيانه.. هو أن ما يكتب عن كل قضية في (دفتر الضبط) لا يكون عادة في صفحة واحدة أو صفحات متتالية من (دفتر الضبط)، ولكن في صفحات متفرقة منه.. وحسب الجلسات.. بل أحياناً تكتب مرافعات القضية في عدة ضبوط.. لأن ذلك المجلد الهائل عرضاً وطولاً.. يُفتح.. ثم تُكْتَبُ عَلىَ صفحاتهِ مرافعات كل القضايا المنظورة في ذلك اليوم الشفهي منها والمكتوب، وعلى وجه متوالٍ ومتتابع.. فإذا ما انتهى، أتى كاتب القاضي بدفتر ضبط آخر.. أي جديد.. كي يكتب فيها ما دار حول نفس القضية التي انتهى الدفتر السابق وهو يكتب فيه مرافعاتها، ثم يُتبع ذلك بكتابة مرافعات قضية أخرى نظرها تالٍ لها.. في ذلك اليوم وبتلك الجلسة، وهذه الأخيرة ربما كانت قد نُظرت من قبلُ في جلسة سابقة.. وكُتِبَ الجزء الأول من مرافعاتها في دفتر الضبط السابق.. أو الذي قبله.. ثم يتبع ذلك – أي كتابة تلك القضية – بكتابة مرافعات قضية ثالثة ورابعة، وهكذا.. أي أن صفحات هذا الدفتر تحوي مرافعات كل القضايا التي نظرها القاضي في جلسة ذلك اليوم.. وهذا بالطبع يكون على وجه متتابع بالنسبة لمرافعات القضايا التي نظرت في ذلك اليوم.. الأمر الذي يغدو معه غير متتابع بالنسبة للقضية الواحدة..، وقاعدة عدم التتابع هذه ستستمر بالطبع إذا ما انتهى هذا الدفتر.. لأن الأجزاء الأخرى من مرافعات القضايا نفسها ستكتب في دفتر آخر. - لقد غدا هذا النص الذي أتت به اللائحة.. أى الفقرة رقم (3) والمضافة للمادة (62) وبالاً على سير المرافعات في الدعاوى المنظورة – فهو قد أعادها القهقري.. إذ آب بها صعداً إلى ما كان عليه الأمرُ في القرون الخالية.. نقول.. وهذا، ولا جدل، وبال أنزل بسير المرافعات.. وقد زاد الوبال بل والنكال أيضاً بإسداء هذا النص للقاضي سلطة لتقدير ما يراه مؤثراً أو العكس.. فلو رأى القاضي لزوم رصد كل أو غالب ما ورد في المذكرات في محضر الضبط باعتباره مؤثراً.. فإن نظر القضية سيطول دون ضرورة.. فيضار بذلك الأخصام.. والنتيجة هي نفسها إذا رأى ناظر القضية حذف الكثير مما ورد فيها.. ومنع رصده لعدم تأثيره.. فالحـذف هذا قد يُوهن حجة صاحبها. - إن هذا في حقيقة الأمر هو الذي أفرخ شكاة أصحاب القضايا وسخطهم.. كما أبنْتُ منذ سطور.. وهذا يؤوب إلى أن القضاة لا يلوون على نص المادة (62).. أي أنهم يطبقون ما ورد في الفقرة (3).. ومن ثم فهم يدرجون كل ما يتقدم به الأخصام شفاهة وكتابة.. وهذه الكتابة تُحتم في العادة تكريس ساعات.. إذا كانت صفحات المذكرة متعددة.. الأمر الذي يؤدى إلى ضياع يوم ناظر القضية.. لأن الجلسات ستطول.. خاصة أن كتاب المحاكم لم يدربوا على الاختزال حتى بالنسبة لما يفوهُ به المترافعون شفاهة.. لذا فإن القاضي قد لا ينظر أحياناً إلا قضية واحدة أو اثنتين كل يوم.. وهذا بديهي.. لأن كتابة المذكرة التي تحتوى عدة صفحات بكاملها في المحضر يتطلب ساعات وساعات.. بسبب طولها.. بل إن هذا الوضع قد يُلِزُم غالباً بكتابتها في عدة جلسات.. فيورث هذا إطالة للمرافعات ترتكس معها القضايا في ساحات القضاء لعهود طوال.. الأمر الذي تضار به العدالة،.. ولا مدعاة للعجب هنا.. فهو النتيجة المنطقية لكل ما أسلفناه.. لماذا.. ؟.. لأن ما يدلي به الأخصام من أقوال أو يقدمون من مذكرات في كل قضية على حدة يكتب – كما أسلفنا - في صفحات متفرقة وحسب الجلسات، بل وفي مجلدات ضبوط متفرقة، وكي يبدأ القاضي في نظرها مرة أخرى في جلسة تالية... فإن الكاتب يُهدرُ وقتاً ليس بهيّن كي يجد ما انتهى إليه المترافعون في الجلسة السابقة،.. لأنه في العادة يغيب عن ذهنه رقمها.. وكي يبدأ القاضي من حيث انتهى سابقاً.. فإنه سيبحث عن الصفحة (كحاطب ليل).. وعليه فإنه لا يجدها في العادة إلا بعد لأي.. هذا إذا عرفنا أن الصفحة الواحدة.. قد يُكْتبُ فيها – بسبب تناهي طولها وعرضها - أجزاءً من مرافعة قضيتين أو ثلاث وليس قضية واحدة.. وأحيانا يُلزم الأمرُ الكاتبَ بالبحث أيضاً عن المجلد الذي كان فيه ذلك.. فالقضية كما ذكرنا تكتب في عدة مجلدات.. وإذا عرفنا أن المرافعات طويلة وتكتب كلها باليد، ثم يكتب كل هذا بدوره باليد أيضاً في الصك.. (لأن كل ما هيل في دفتر الضبط يُهال في الصك.. وسواء كان هذا لازماً.. أم غثاً لا لزوم له.. فالقضاة لا يوجزون ما أتى به الأخصام في مرافعاتهم.. أما لعدم معرفة أو لعدم استعدادهم لبذل جهد لذلك.. ولا يكتفون بما كان له ضرورة من حجج ودفوع بل يعرضون ما أدلى به الأخصام شفاهة أو كتابة.. كما هو في الغالب،.. أي دون تحليل فقهي ودون حيثيات تنطوي على عرض موجز للحجج والدفوع التي انتضاها كل طرف من أطراف الخصومة وتغليب ما تلزم به قواعد الشريعة والقانون والعدالة، كي تكون عضداً يركن إليه حاكم القضية في الحكم الذي يصدره) وعليه.. فإن الصك يغدو لهذا السبب متناهياً في طوله.. ومن ثم فإن إتمام كتابته يتطلب مدة قد تفيض أحياناً على شهرين أو أكثر، فكاتب القاضي عادة يكون منشغلاً بقضايا أخرى..، لعدم وجود كاتب آخر في أغلب الأحيان.. يساعده أو يحل محله في هذا الأمر..، - بعد كل هذا الزمن -.. يذهب الصك لسجل المحكمة لرصده في سجلها (باليد) مرة أخرى، وحتى يأتي دوره (لقلة الكتَبَة في السجل كما هو الحال لدى القضاة) فإن الأمر يتطلب مدة مماثلة أو أكثر،.. وعليه فإن من صدر لمصلحته الحكم لا بد أن ينتظر بعد ذلك مدة شهر، وهي المدة المسداة لخصمه الذي اعترض.. كي يقدم طعنه ضد الحكم، فهذا الأخير لا يتسلم صورة الصك إلا بعد أن يتم رصده في السجل. - ولا يحسبن أحد أن هذا الوضع سيتغيّر بمجيء الحاسوب في المحاكم، فقد جاؤوا به إلى محكمة جدة.. إلا أن كل أمرىء من أمره ما تعودا.. فقضاتها يهيلون فيه كالعادة ما يتقدم به الأخصام، ثم ينقلون ما هيل هناك في الصك، لذا.. فإننا نرى صكوكاً تصدر من قضاة بمحكمة جدة يتعدى طولها 50 أو 60 أو 70 صفحة من صفحات الصكوك المشهورة بطولها وعرضها. - ولعل هذا هو الذي أثار عجب من هو على هامة القضاء، فقد أنْبا عن عجبه في تصريح له في الصحف ونعني هنا سماحة رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشيخ صالح الحميد، الذي أحيا فينا كل ما نرتجيه للنهوض بتأهيل القضاة وتدريبهم.. والرقي بمستواهم.. فتأهيلهم التأهيل الصحيح بدا – مع الأسف - وكأنه قد ضرب على آذانه سنين عددا.. عدد ما لبث ذلك الذي كان له الحول والطول في عهد القضاء الذي ولىّ.. أعود إلى سياقي.. وأقول لقد أبدى سماحته غرابة من طول صكوك الأحكام على هذا الوجه.. ولا بد أن سماحته بثاقب نظره.. أدرك السبب الآن، وهو أن اللائحة التنفيذية أباحت هذا، رغم أنها هنا هتكت، النظام خاصة أن أغلب القضاة لعدم تدريبهم على صياغة الأحكام يكتفون بذكر ما قاله الخصوم، ثم يُذَيِّلُ ما فاهوا به وكتبوه بالخاتمة المعروفة.. ثبت عندي.. ثم يصدر حكمه خاليا من أي حيثيات حاوية لأسباب حكمه. - إن كل هذا يقطع بدوره أن الحكم (الصك) لا يذهب لمحكمة التمييز إلا بعد أن ولّت شهور على إصداره، ناهيك عن المدة التي انقضت في مرافعات تتسرمد سنين طوالا، بل إن القضية عندما تذهب لمحكمة التمييز وكان الخط سيئاً، والصك طويلاً، فإن هناك شكاً جد كبير في أن يُراجع ويُعمل فيه النظر على وجه متكامل، لأن طوله وسوء كتابته يُثَبِّطان ويُوهنان عزائم قضاة التمييز عن ذلك..، وهذا يعنى أنه صدر دون تدقيق ينطوي على مراجعة ودراسة متعمقة تعرفوا بها على ما انداح في دخائل القضية من جدل ودفوع متعارضة، لذا... فإن العدالة تغدو بطيئة لمن صدر الحكم لمصلحته.. والعدالة البطيئة عدالة قاصرة بل هي قاصرة أيضاً… لمن صدر لغير مصلحته،... لأن الحكم ربما يكون قد صُدِّق من قضاة لم يعرفوا من حقائقها إلا العِذار.
إنشرها