Author

.. وما يأتينا من اليمن!

|
.. حتى يمكنك أن تسيرَ طبيعياً فيجب أن تكون إحدى قدميك على الأرض، والقدمُ الأخرى في الهواء. متى وضعت كلتا القدمين في الأرض فإنك لن تتحرك قُدُما وستبقى ساكنا، وهذا ما نسميه بشدة المحافظة، وعندما تكون كلتا قدميك في الهواءِ فإنك ستقع على قمّةِ رأسك، وهذه صفة الحركات الثورية التي تظن أنها تقدمية أو إصلاحية أو تغييرية. اليمنُ بلدٌ عظيمٌ، شاءت الظروفُ أن تلاقي عظمتـَهُ امتحاناتُ القرون، بل إنها دولة أصيبت بأكثر الامتحانات بلاءً، فهي بلدٌ من عقولٍ عظيمةٍ، ونشاطٍ جم، فمن اليمنيين من هم أكثر أهل الجزيرة همّةً بدنية، وريادةً في الفكر، وطموحاتٍ حتى أقاصي الأرض. وفيهم العدميون الذين يتلفعون في كل عصر يمني بعباءة التقدم والإصلاح والتغيير المتسرع ومجموعة من الادعاءات، مرادهم أن تكون قدَما اليمن معاً في الهواء كي تسقط أمةٌ راسخة التاريخ، ومهدٌ للحضارة. على أن الراسخين لا يقعون.. يتمايلون، يترنّحون من ضرباتٍ متواليةٍ، ولكنهم يبقون كالجبال في طبيعتهم يتفتت من سفوحِها الصخر وتُفَجَّرُ جوانبها ولكنها تبقى لا تميد، على أن هناك من شبهها بسدّ مأرب، تاريخٌ أثيل، وماضٍ انهار مع طوفان.. والأخيرون مخطئون. السعودية جاورت اليمنَ مجاورة غريبةً جداً، ليست مثل مجاوراتِ الدول، وليس بين الدولتين مجرد اتفاقاتٍ دولية كتلك التي توثـَّقُ في المواقع الدبلوماسية والسياسية، إنها مجاورة غريبة حقا، فنحن واليمن نكاد نكون دولتين متجاورتين ومتداخلتين حتى يُخـَيّل لمن يرى اللوحة السياسية الكبرى أنهما يتماهيان في صفةِ الدولةِ الواحدة، ومواثيقهما ومعاهداتهما ليست معاهداتِ الجيرة الدولية المعتادة، إنها تأصيلُ العلاقة البينية كعلاقة أسرةٍ فيما بينها، وليست كعلاقةِ جيرانٍ في حيِّ الجيرة. من هذا الواقع، أرادته الدولتان أم لم تريداه، فإن ما يحدث فيهما يؤثر جوهرياً في داخل الأخرى. على أن تأثر اليمن بنا أكثر من تأثرنا نحنُ بها، بحكم حجمِنا وامتدادنا وتنوع طبائع الجغرافيا السياسية. لذا فإن أي حركةٍ في اليمن تتطلع لقضم شيءٍ من الدولةِ المجاورةِ الكبرى، قد يكون قضماً معنوياً أو قضماً ماديا، لأنها بذلك تعتقد أنها تكبرُ حجماً، ولأنها تعتقد أن أي خرابٍ في اليمن (أو ما تراه صلاحاً بمنظورها) لا يأخذ مظهرَهُ الفعّال إلا بالتدخل بالشأن أو الأرض السعودية، وأحياناً من وهم كالحقيقة بأن السعودية لن تسمح بالإخلال بسير اليمن سيرا طبيعياً من واقع شدةِ اهتمام السعودية باستقرار اليمن – على طريقتها، كما قد تعتقد أي حركةٍ من حركات قدَمَيْ الهواء - فتجد أن الإقدامَ على إشغال السعودية أو جرّها لأرض معركة هي التي ستعطيها الزخمَ الأكبر، ويوصلها للعالم، أو لأنها مخلب لمخلوقٍ مختبئ يريد أن يجرح شيئاً من الجلدِ السعودي لأغراض مصلحيةٍ وسياسيةٍ أكبر من تصوراتها.. على أن السياسة تبقى سياسة في نهاية المطاف، والسياسة في اللغةِ هي حُسْن المداراةِ لكسب الهدف، وبالتالي هدف كل دولة مهما كانت، بأي ظرفٍ وُضِعَت، وأمام أي تحدٍّ يظهر، هو أن تحافظ وتصون كيانَها، وهي تعرف أن حدودَ الدولة كالسدود، إن حصل فيها حتى ثقبٌ صغير بعيد فهذا يعني الطوفان الطاغي.. لذا قد يتعجب المراقبُ أن يكون حجم الردّ في الصغائر الاقتحامية كما هو في الاقتحامات الهجومية الكبرى، على أن بطلان العجب هو عندما نعرف هذه الحقيقة بأن الطوفان يتسرب من قطرةٍ من مسّامٍ صخري مفتوح، وينهمر من فجوةٍ واسعةٍ مفتوحةٍ.. سِيّان. وأنا من محبي اليمن، وكنت أعد حقائبي لزيارة تراودني حُلماً لليَمن، لأني من مُعْجَبي تاريخه المجيد. ومراجعُ اليمن عندي كثيرة، مؤلفاتهم هم، ومؤلفات غيرهم عنهم، وأي كتابٍ عن اليمن أجنبي أقتنيه في أي مجال سواء في القصة، مثل قصة ''ملكة سبأ Queen Of Sheba''، التي ظهرت بالإنجليزية عن قصة بنتٍ يمنية، أو عن رحلةِ أمريكيٍّ شابٍّ استقر في اليمن، وما زال، بعد أن كان يريد إكمال طوافه حول العالم، أو ما تخرجه الدورياتُ العلمية الجغرافية والأنثروبولوجية والأركيولوجية والسياسية الدولية عن هذا البلد العظيم.. وكلما وضعتُ في فمي قهوة ''موكا'' ـ تذكرتُ بحسرةٍ واحدة من مذابح اليمن الاجتماعية والاقتصادية في نزع أفضل شجيرات بُنٍّ في العالم في مدينة ''مخا'' اليمنية (والتي راجتْ بالعالم باسم موكا) لإحلال تلك الشجيراتِ الليفية السمينة الورقات الخضراء التي سمَّمَتْ الجسدَ اليمني وما جاوره.. القات. وإني لستُ قلقاً من حركات اليمن الانشقاقية المستعجلة للتوثب والظهور فهي تضع قدمَيْها في الهواء، وستنتكس سريعاً ونهائياً، ولكن الذي يقلقني جداً هو أن كل حركةٍ من هذه الحركات، كل أزمةٍ من هذه الأزماتِ، تسرق جزءاً من قلبِ اليمن معها، وتزيل عضلة من عضلاته للسير للأمام.. ونحن، سيبقى قدَرُنا أن تبقى إحدى عينيْنا متيقظةً تراقبُ وتسهرُ على اليمن.. وما يأتي من اليمن.
إنشرها