Author

دمِعْنَ كثيراً، والآن يمنـَعْنَ الدموع!

|
.. الإنسانُ لا ينهزمُ ولا ينكسرُ إلا عندما تأخذُ الأحزانُ مكانَ الأحلام والطموح للعمل. فالعيبُ ليس في الحزن وهو من عناصر كينونتنا الإنسانية، وإنما النقصُ هو في الاستسلام للحزن. والنجاحُ البازغُ، والتفوقُ الظاهرُ، هو في أن تكون الأحزانُ مِنـَصّةً للحثِّ على عملٍ يقلل من أسبابِ الأحزان، بأن يكون الحدثُ الآسي سبباً لليقظة والوعي، أن يكون الحزنُ ليس ذكرى ذاهلة تغيضُ بالروح الإنسانية، بل يصير ضميراً حاضراً يفيضُ بالروحِ الإنسانية .. عندما يكون الموتُ دافعا للتشبثِ بالحياة، عندما نفقد أحبابَنا ومهجَ أرواحِنا، ثم نشمّر للعمل، من أجل الله، ثم من أجل أرواح من فقدناهم ومن أجل الناس، كي نحاول إنقاذ أرواح ومهج حياة الآخرين. هنا تكون العِبَر، وهنا تكون الروحُ الإنسانية في معراجها الأعلى، عندما تضمرُ في سابغ وجدانك ووسط دموعك أنك لا تريد أن ترى دموعاً في مآقي أمّهاتٍ وآباءٍ وأهلٍ آخرين.. هذه الدموعُ التي تنزف في بلادنا، لأن بلادَنا واحدة من أكبر البلدان التي تأكل الطرقاتُ وعرباتُ الحديد فجْر أجيالها. إننا ندفع أكبر الضرائب على أهم وسائل التواصل الحديث. من وسط هذه الأشاعير نسجت سيدتان مشروعَ توعيةٍ مرورية وخرج باسم «برنامج أمهات وأهالي ضحايا حوادث السيارات» والسيدتان اللتان يرجع لهما الفضل في استنهاض الفكرة، ثم عرضها كبرنامج على لجنة التنمية النسائية في الثقبة في مدينة الخبر، التي قامت بتبنيها بالكامل، وقدمت «أرامكو» و»سايتك» دعماً واحتضاناً كبيرين، هما السيدتان: سامية البواردي، ونورة العفالق. ولم يأت الفعلُ «نسَجَ» حين قلنا إنهما نسجتا مشروعا إلا من معاني التداعي.. التداعي الذي يأخذنا لنشبة ما نرى بأولئك الفتياتِ اليافعات اللاتي ينسجن واحدا من أجمل إنجازاتِ العمل الإنساني وهو السجادُ العجمي، أجمل وأرقى وأروع ما تصنعه اليد البشرية، ولكنها أيادٍ صغيرةٍ تتضرّج بالدماء سنين والإبَرُ والموادُ الحادة تشق جلدهن الطري، وآلام الظهر وتشوهات العظام من طول القعود، وضعفِ البصر، وضياع بواكير الحياة، ليخرج من وسط الآلام جمالُ سجادة الحرير. وهؤلاء السيدات إنما يقدمن لنا سجادة الحياة. فهما وبقية صاحبات المشروع كما قلن عن أنفسهن: «نحن عضوات في لجنة التنمية النسائية في الثقبة واجهنا الحزنَ وشعرنا بمرارته بسبب فقدان وإصابة أحبابنا في حوادثِ السيارات، وبعزيمةٍ توقدها الحرقة والخوفُ تشكل هذا الفريقُ متعهدا بعمل أقصى ما بوسعنا للمشاركة الإيجابية لإحداثِ تغييرٍ من شأنه الحدّ من حوادث السيارات. ولقد حضرنا، مجموعة من المهتمين، وأنا، لتقديمٍ من السيدات، وتجاذبتنا المشاعرُ مثل المربوط بحبالٍ من أطرافِهِ تتجاذبها قوتان متضادتان، فنحن بين الأسى والفخر، بين الشعور بألم الفراق، والغبطة بما ينجزنه أمامنا. وخرج من حضر بأمل أن يكون هذا البرنامج برنامجا نافعا يعمّ كل سماء الأمة ليظلل كل طرقاتها، وليحقق حلمَ السيدات اللاتي فقدن أحبابهن أو أصيبوا على الطرقات بأن يخلـّصنَ هذه الأمَة من غولٍ يأكل اللحمَ الغض: حوادثُ المرور. ثم إن في المشروع فلسفة إيجابية كبرى، وهو ما سُمّي بالراكبةِ الإيجابية. انظر، فبينما في الأمةُ من يختلف ويتناقش كأهل بيزنطة عن مسألة السماح أو عدم السماح بقيادة المرأةِ للسيارة، تأتي العبرة اللامعة هنا بالاستفادة من كل لحظةٍ، من كل موقف، فصاحبات المشروع لم يفهمن أن عدم قيادة المرأة يعني تعطيلاً لملكاتها ومعرفتها المرورية، ففكـّرن في أمرٍ عملي شاهق في هذا الظرف، وهو أن المرأة يجب أن تكون مُلِمّة بقواعدِ المرور، وقواعدِ القيادة المرورية ربما أكثر من السائق نفسه سواء أكان السائقُ الأجنبي، أم الأخ أو الابن أو الزوج أو حتى الأب. فهي راكبة إيجابية مع السائق تدلـّه على التصرفِ الصحيح، وتحذره من المخالفة والعمل الخاطئ، وتنتبه للأطفال داخل العربة، وتتأكد من شروط السلامة في الداخل في استعمال أحزمة السلامة وطريقة الجلوس وضبط الأبواب، وعدم إلهاء السائق وتشتيت انتباهه، والتأكد من يقظة السائق خصوصا في الطرق الطويلة. وهذا درسٌ في منتهى الحكمة في العملية والاستفادة إيجابياً من كل ظرفٍ مهما حسبناه مُعْجـِزَاً أو مُثـَبـِّطا. عندما تشرعون في الركوبِ تذكروا أن السيارة تقود إلى طريقين، فاحفلوا بطريق الحياة، وهذا له شروطه البسيطة ولكن نتيجته صيانة أنفـَس ما نملك، الحياةُ نفسُها. وعندما تبدأون في دعاء الركوب فادعوا أن يعمّ البرنامجَ أرجاء الأمة، وتذكروا أن تدعوا لسيّداتٍ جرّبْنَ أقسى لوعاتِ الحزن، وقدّمن لنا برنامجاً ليحميننا من لوعاتِ الحزن.
إنشرها