Author

احترق جسدُه، ليضيءَ العالمَ

|
.. سيتجزأ المقالُ اليوم لفقرتين فقرة أطول من الأخرى، فقرةٌ عارضة، وفقرةٌ طارئة: - الفقرةُ الأولى: عندما أقول إني أعجب بالأبطال الذي أبلوا بلاءً عميقاً، وأظهروا شجاعةً نادرة، وتحملا أسطورياً للصدع بالحقيقة، أو ما يعتقدونه بكل وجدانهم الحيّ أنه الحقيقة، وتصدّوا لتفنيد الأباطيل الذائعة، ونقض الأفكار الخاطئة، أضاؤوا بقناديل الثبات والأمل والألم درب الإنسانية، فإني أقصد وبلا مواربةٍ ولا تـَقيّةٍ كل شخص يصدع بالحق، سواءً أكنتُ أميل لرأيه، أو أميل عنه.. لأن الذي يهزني هنا شعوراً وتطلعاً وإعجاباً منقطعاً هو الوقوف للحق.. إيمانا بأنه الحق. وصلتني تعليقات كثيرة، وفهم صحيح، وفهم بين السطور، وفهم ملتوٍ لمّا كتبتُ ما يشبه ذلك في مقتطف «حافز الجمعة» بمقتطفاتِ الجمعة ليوم أمس.. ومنها رسالة الدكتور الفاضل يحيى. م: «لقد لفتني تغليف تحفيزك يوم الجمعة، ولكن لم يفلح هذا التغليفُ معي، لأني عرفت ما تقصد. وأنا أرى أنك أحيانا تتنفس تحت الضغط، ولا أقول أنك تعبر عن الجهة التي تتحدث عنها، فهي لا تسمح لأحد أن يعبّر عنها، حتى ولا أنت. ولأني لن أخوض معك بهذا الموضوع، أترى بأن أبطالك هم فقط «رجال الدين»؟ والقوسان الصغيران حول رجال الدين وضعتهما أنا، لأن هذا المصطلح أعتقد أن صاحبنا أراد به فقط اللفظ الشكلي، لأن الإسلام لا رجالَ له دون رجالٍ.. ولكن علماءَ ودارسين ومجتهدين. على أي حالٍ إن الموضوعات دارت ونوقشت باضطرام عبر البلاد، وهي موضوعات كانت يجب ألا تكون مثار خلاف، بل لتحريك حوار.. ويصدق قول المتنبي: يخيلُ لي أن البلادَ مسامعي وأني فيها ما تقولُ العواذلُ ولكني أقول لأستاذنا الدكتور يحى، إن رأيه فيني هو رأيه، وهذا موضوع منتهٍ.. ولكن أن نقرأ النوايا فهذا لا يجوز في أي علم من العلوم، سواء أكانت دينية أم تطبيقية. بالنسبة إلي، إن وقف عالمٌ شرعي مع الحق فإني أقف معه إعجاباً وتأييداً لأنه وقف للحق لا لغيره، وإن وقف ضدّ الحق فلن أقف معه لأن المسألة هنا هي مسألة المبدأ الحقـّاني. ولو سألني الدكتورُ أيضا لقلت له إن من أهم الشخصيات التي ما زالت تدور بخيالي من الصِغَر وأُفرِدُ لهم إعجابا باقيا هم من علماء ومفكري أوروبا في العصر الوسيط الذين قاوموا الهيمنةِ اللاهوتية الكنسية وجبروتها الوحشي. وهم وقفوا شجعانا بواسلَ في سبيل الحقيقةِ، و»الحقيقة» كانت حينها هي «العلم». وعلى رأس هؤلاء ليس «جاليليو» ولا «كوبرنيكس» اللذيْن لم يكملا المسيرة النهائية مع تسجيلي لبطولتهما الخارقة. احترامُ الإنارةِ الإنسانيةِ يقف شاهداً أمام عالم إيطاليا ومفكرها ومتصوفها في القرن الخامس عشر «جيورناردو برونو».. وكما قلتُ في «حافز الجمعة» فإنّ من يحمل كشّافاً ينيرُ لمن معه وما أمامه، ولكنه هو يغطيه الظلام. فحاملو مشاعل الإنسانية للتقدم والتحرر من أصفادِ الخرافة والكهنوت هم من غطس ذكرهم تحت سطح التاريخ، وبقيت لامعة أسماء الأشرار ومسببي الحروب وأباطرة المظاهر. أن تقف شجاعاً أمام أرعب فرقٍ سوداء عرفها العالمُ وتاريخه منذ نشء الخليقةِ إلى الآن هي «محاكم التفتيش»، الذين ارتكبوا فظاعاتٍ لو ذكرتُ ما كتب عن وصفها المؤرخون لأسقطتْ الحاملُ وغـُمّ على المقلوبِ والمكبود. وإني أستغرقُ حزناً لما أتذكر أن محاكمَ التفتيش حرقتْ عشرات الآلاف من مسلمي الأندلس بعد أن انتزعت قلوب كثير منهم – لانتزاع إيمانهم - والنارُ تضطرم بأجسادِهم.. محاكمُ التفتيش التي وقف منها العالِمُ الشجاع «برونو» الذي أكمل مسيرة البهاءِ والمجدِ الإنسانيّيْن حتى النهاية.. لقد كان «برونو» غريباً، عالماً صوفياً يؤمن بالإحلال، ويرى اللهَ في كل شيء (حتى نعرف أن الصوفيةَ منظرٌ كونيٌّ أكثر من كونهِا مذهباً دينيا) تماما مثل الحلاّج في تاريخ التصوف الشرقي.. إلا أنه ليس متصوفاً منقطعا بل عالم طبيعي رياضي فلكي، وأيّد كوبرنيكس وجاليليو في مسألة كروية الأرض، وأن الشمسَ مركزُ الكون (بل لِـ»برونو» رأيٌ بوجود عوالم مسكونةٍ أخرى في الفضاءِ البعيد!). تصوّر الآن المشهد معي.. المكان: ميدانُ الأزهار، روما عام 1600: يجرّ رجالٌ غلاظ رجلاً صغيرَ القامةِ ضعيف الهيكل منطفئ اللون، والجماهيرُ تمطِرُه بالسباب واللعن والحجارة، وحوله يتجارى رجالُ الكنيسة يحثونه على الرجوع عن آرائه العلمية حتى يطلبوا له الغفرانَ الإلهي، وربما النجاة من العقاب الذي يواجهه تلك اللحظة، فيرفع إصبعَه مشيراً إلى عقلِهِ ثم يحركه مشيراً بالنفي، أي: «يقول عقلي: لا!». ولم تفلح الجهودُ، فعـُلـِّقَ وشبَّت في جسدِه النارُ، وفلتَ إصبعه ليشير إلى ذهنه وهو يتحولُ جمرا. إنه رجلٌ نقف له، بل يقف له التاريخ.. بل تقف له الإنسانية. المكان: ميدان الأزهار، روما عام 1889: يقامُ تمثالٌ للفيلسوف والعالم الكبير «برونو»، تقديراً له، لأنه من الذين علـّموا العالمَ احترام حرية الفكر.. نفس المكان الذي أُحرِق فيه. إذن، يا أستاذي الفاضل، القصدُ: المطالبة باحترام حريةِ الفكر.. لا أكثر، لا أقل! - الفقرة الثانية: «أوباما» يفوز بجائزة نوبل للسلام!! مع تقديري لإنجاز الرجل لنفسِه، ماذا فعل من أجل السلام العالمي؟ وفي فترةٍ لم ينهِ مواضيعَ الإدارة السابقة كي يبدأ بمواضيعه، ألا يثير هذا أن الجائزة مسيَّسة حتى النخاع؟
إنشرها