Author

أهدى محبوبتـَه زهرةً.. فماتَ!

|
* أهلا بكم في مقتطفات الجمعة 317. *** * حافزُ الجمعةِ: هذا الكونُ مرتكِزٌ بنظامِه وناموسِه على الانسجام. ومن نتائج هذا النظام الحتمي رسالةٌ كونيةٌ عامّةٌ بأن النجاحَ، والإنجازَ الدائمَ الإثمارِ، والسلامَ، أهدافٌ لا تتحقـَّق بلا عنصر الانسجام. عبر القرونِ، حاول أشخاصٌ تحدي الانسجامَ لأغراضِهم الخاصة لتحقيق السؤدَدِ والعظمةِ والجاه، ولكن مظاهرَ نجاحِهم سرعان ما تتشوّه وتضمحل لفقدان هذا الانسجام مع البيئةِ الخارجية. الانسجامُ إرادةُ الله التي لا تُنازَع في ضبطِ الحِكْمَةِ الكونيّة.. إن لم نفهم هذا فلن نفهم أبجدياتِ الحياة! *** * ويكتب الأستاذُ «يوسف الكويليت أحد العقول المنظّرة بجريدةِ «الرياض» وأصواتها المعبّرة، عن مناسبةِ افتتاح جامعة الملك عبد الله: «إن المشروعَ عبارة عن مشاركةٍ في سباق الزمن لخلق بناءٍ متكاملٍ اقتصادي، واجتماعي، وتربوي، وصحي، فأسس الملكُ أكبر مشروع في تاريخ المملكة لبنيةٍ جديدة، لأن تجاربَ الشعوبِ والأمم أثبتت أن الاعتمادَ على مصدر واحدٍ يصعّب خلق مستقبل آمن، فكان الاتجاه للتعليم أهم وأكبر الخطى لأن بناء إنسان بمعرفةٍ معاصرةٍ يُعد المشروع المتكامل..». وبالفعل، الجامعة رمتْ نيزكاً في بحرٍ كان يعمّه السكون والرتابة وثقافة القرون.. والسؤال بصراحةٍ مطلقةٍ: «ألا يترك النيزكُ الخارجي آثاراً بعيدة لا ندركها الآن.. ويتوجب الاستعداد لها من الآن؟!» *** * وشاهدتُ على قناةِ «العربيةِ» في برنامج «روافد» زميلـَنا وأستاذَنا الدكتور «سعد البازعي»، وكان البازعي أخاّذا كعادته كناقدٍ متأصّلِ المعارفِ باللغتين الإنجليزية والعربية، وأنا من جمهوره الذين يحرصون على قراءة مقالاتِه وكتبه النقدية، فبرأيي – على الأقل - أنه رائد النقدِ الأدبي والمقارن في بلادنا. لذا كان استمتاعي وفائدتي كبيريْن.. وتعجبتُ لترجمته لكلمة «كولر Collar» بالقلادة، وهو يشير إلى نقدِ قصيدةٍ إنجليزيةٍ عن قسّيس هجر كنيستـَه، والرمزُ لهجران الكنيسة هو رَمْي «طوْقَ» العنقِ الأبيض الملتف على جذع الزيّ الكنَسي.. فالقلادةُ شاعتْ كترجمةٍ متفق عليها للكلمة الموازية بالإنجليزية «Necklace». والترجمةُ الحرفية ليست خاطئة، ولكن سياقها العربي سيكون أكثر مناسبة بكلمة «الطوق» لا «القلادة». واستغربتُ اعتباره لِـ «جان بول سارتر»، صاحب شِقِّ نظريةِ الوجودية «العدَمية»، فيلسوفاً بمنظومةٍ متكاملةٍ، لأنّ «سارتر» ليس مؤسس الفلسفة الوجودية وشط عن جوهرها الفلسفي في تكريس الفردية الإنسانية. وبرأي تلميذٍ قابلٍ للخطأ أمام قامة أستاذه، كنتُ أتوقع حسب خلفيته الذوقية الثقافية الإنجليزية أن يشيرَ إلى فلاسفةٍ إنجليز بمدارس متكاملة بنـّاءة مثل «جون لوك»، و»فرانسيس بيكون»، و»جون ستيوارت ميل»، أو «برتراند رَسِل». كما أنه أشار إلى أن «ابن خلدون» يعتبر من الفلاسفة، وأراهُ من الباحثين الكبار المتأملين للمشاهدِ الملموسة أكثر من كونه فيلسوفاً يرسم تكويناً ذهنياً بحتاً مثل فيلسوف العربِ الأول القحطاني، «الكِنْدي». تمتعتُ واستفدتُ من مقابلةِ البازعي، وتنوَّرْتُ.. وأردتُ، بعد إذنِهِ، التسلـّقَ على كتِفـَيْه! *** * وقع في يدي كتابٌ عن عمارة المدينةِ الأندلسية «قرطبة»، ورحتُ أقرأه وأتملى في صوَرِه القشيبة، ثم توقفتُ طويلاً حالماً ومتأسفاً عند تمثال رجلٍ مذهل، نحته في العام 1962م، الفنانُ الإسباني «أماديو أولموس»، وكانت تقاسيم الرجل وسيمة حادة التقاطيع بعينين واسعتين ومسحة هادئة من الحزن الغارق في التفكير، تماما كما يصفُ «ابنَ حزم» معاصروه، ويضيفون أن له حِدّة في الطباع. وحياة هذا العالم الفقيه الظاهري عجيبةٌ وغريبة .. شيءٌ يتاخمُ حدودَ الخيال. إنه فيلسوف أخذ من «أرسطو» بأنّ الفضيلةَ منزلةٌ وسط بين رذيلتين، وأخذ من «أفلاطون» أن الفضائلَ تعود للعقلِ والعدلِ والشجاعةِ والسخاء. وتعْجَبُ كيف لهذا الظاهري الحادّ التعصب (انتقدَ المالكيةَ بعنفٍ، ولم يسلم الإمامُ مالك من نقدِهِ!) أن يكون فيلسوفاً على نمط التحليل الإغريقي الذي يخترق مظاهرَ السطح للأعماق، والظاهرية تقف عند السطح في تطبيق النصّ بلا تفسيرٍ ولا مساءلة.. وتعجبُ أنه تربّى وسُقِيَ العلمُ الشرعي والمنطقي على يد الجواري في القصور (وهذا مبحثٌ يجب أن نتطرقَ له لاحقاً، فالحريمُ ليس فقط ما شاع في النقل الاستشراقي كمظهرٍ فقط للمتعة.. فقد كُنّ عالماتٍ ويدرُسْنَ على أكبر الحكماءِ والعلماء).. إنه الفقيهُ الظاهري الذي كتب أروع كتابٍ عن الحبِّ والمحبِّين، كتابُ «طوْقُ الحمامةِ» .. وليس «قلادة» الحمامة، عفواً معلمي سعد البازعي، جاءتْ بقوةِ التداعي.. لا غير! *** * والحديثُ الذي أثارَه التطرق لمقابلة الدكتور البازعي يقود إلى ما نسميه بالصورةِ القطعية َ»ستيريوتايبنج» في التصنيفِ الفكري لكل أمّة، فالصورةُ النمطية عن الفكر الألماني جموده العلمي وتيَبّسِه التحليلي.. على أن هذا غير صحيح فأرقّ الأدباءِ والشعراء إنما أنبتتهم التربةُ الألمانية ومنهم «جوتِهْ» الإنساني الجميل صاحب «آلام فرتر»، واللطيفُ الرقيقُ الزاهدُ النمساوي ( والنمسا من الأرومةِ الألمانية) «رينر ريلكِهْ»، شاعرُ الورودِ والأزاهير، ومجدّد الحبّ العذري الإسلامي.. نعم الإسلامي. فقد تولع بالزهدِ الإسلامي وتعلق قلبه بمصر القديمة (الفرعونية) والحاضرة بوقتِه. ولقد ملكه الإعجابُ بالمصطفى الحبيب نبينا محمد، وأشاد بمناقبه بقصيدةٍ تُحرّكُ المُهَج. وقصّة وفاتِهِ من أغربِ القصص، فقد أحبَّ فتاةً مصرية اسمها «نِعْمَت»، ولما جاءت تزوره نزع من حديقةِ بيته زهرةً ومدّها إليها على أن شوكةً بها اخترقت اصبعَه، ثم قيل إنها التهبتْ وسبَّبتْ وفاتـَه شابّاً عاشِقاً زاهِداً متبتـِّلا. *** * من قال إن الشحّاذين ليس لهم أدبٌ وثقافة؟ فالمتسوّلُ «الأحنف العبكري» يقولُ شعراً جميلاً وعميقاً وطريفاً: العنكبوتُ بنَتْ بيـْتاً عــــــلى وهــَن تأوي إليهِ، وما لي مثله وطن والخنفساءُ لها من جنسها سكن وليس لي مثلها إلفٌ ولا سكَن
إنشرها