Author

تاماشي

|
.. ألم تصادفكم أحداثٌ تتكررُ فيها أشياءٌ بعينها في أكثر من مناسبةٍ وموقف؟ هذا ما حدثَ معي أخيرا.. تكررت كلمة «تاماشي» أمامي في أكثر من مناسبةٍ وموقف. أول ما وقعَتْ عليها عيني في كتابٍ ياباني مترجم للإنجليزية عن الثيولوجيا الدينية في اليابان والشرق الأقصى، عن كيف أن العقائدَ تتغير تماماً مع الثقافةِ والطبيعة الإنسانية في الصين واليابان.. فالبوذية انتقلت من الهند، وبقيت بوذيةً صِرفةً في سيام (تايلاند الحالية) وفي كمبوديا، وكل أنحاء الهند الصينية، إلا في الصين واليابان اتخذت وجهةً أخرى تماما حتى كادت تكون مذهباً وعقيدةً مستقلة، وبالطابع الصيني أو الياباني. فالبوذية صارت شنتوية في اليابان، وتلبّستْ بطابعٍ روحيٍّ يختلف تماما، بل أحيانا مناقض للبوذية الأصلية، فبينما البوذية تدعو إلى السكينة والتأمل للوصول إلى «النارفانا»، وهي مرحلة التسامي الروحي الأعلى في البوذية، نجد أن «الشنتو» تدور حول روحية لا تعرف السكون بل النشاط والإتقان، وأهمها روح «التاماشي». وفي الصين انتقلت البوذية إلى صعيد روحي صيني هي «الطاوية» التي اتخذت المنحى الصيني في تعاليم الحكمة والتعامل الأرضي، فخرجت الزان وتعاليمها.. وكل هذا مستقل عن الكنفوشية. ثم قرأتُ كتابا خفيفاً من تلك الكتب التي يسمونها في الأدبِ الروائي الأجنبي بكتب الصيف أو الرحلات، وعنوانه «بنت الرامين The Ramen Girl»، وفهمت أنه صار سيناريو لفيلم هوليوودي بذات العنوان .. عن فتاةٍ أمريكيةٍ يتركها صديقها في اليابان، وتجدها فرصة لمتابعة حلمها بأن تكون طاهية محترفة لأشهر شوربة يابانية عالمية وهي المعروفة بالرامين، وللرامين فنون في الإعداد، والتحضير، والمكونات، والمقادير، ويختلف مذاقـُها من طاهٍ لآخر في طريقة خلط المقادير والمكونات والطهي. والتحقتْ الفتاةُ عند مطعم لأشهر معلـِّمٍ في الصنعة، وكان قاسياً جباراً في تعليمها، ولا تفهم اليابانية وهو يعنّفها، وهو لا يفهم الإنجليزية، إلا أنها كلما أعدت الرامين بإتقان ميكانيكي، يرمي الطبقَ ويكرّر «تاماشي .. تاماشي» وهي لا تفهم، ثم أدركت أن معناها شيء مثل الروح، وترجمتـُها أنا بما نسميه «النفـَس» في الطبخ. ويبدو أن كلانا كان مخطئاً.. وسأقول لكم أقرب معنى لها لاحقاً.. وأنا أركب الطائرة للشرق، ركب بجانبي واحد من الذين أسميهم «أصدقاء الفضاء»، وهؤلاء كتبتُ عنهم وحولهم كثيرا في مقالاتٍ متعددة، ففي الأجواء تُقام صداقاتٌ لها طعم ومذاقٌ خاصّان، وتتعلم من تجارب الناس وثقافاتهم كالنهلِ المباشر من منبع الماء.. هذه المرّة كان السيد «كيناجاوا» الياباني هو صديق الفضاء، فتحدثنا عن أشياءٍ كثيرةٍ، ثم برقتْ أثناء الحديث الكلمة «تاماشي»، لم تكن إنجليزية «كيناجاوا» ولا ألفاظه واضحةً، سألته عن معني «تاماشي»، وأخذنا وقتا طويلا بالكلام والإشارة والرسم لأتقرب للمعنى، وهنا أنقل لكم ما قاله لي السيد «كيناجاوا» ولكن يحدثكم من قد لا يصدق تماما نقلـُه، يقول كيناجاوا إن «التاماشي» هي الروح التي لا يكتمل أي عملٍ إلاّ بها، أي أن تصبّ كل اهتمامِك وعاطفتك وتركيزك في عملك حتى يخرج كامل الإتقان، وإن الغربَ لم يفهموا هذه الروحَ اليابانية الخاصة لأنهم لا يفهمون «الشنتو»، ولكن يستخلصون المعاني من بوذية الهنود، ويقيسونها من المظهر العام للصفة العملية اليابانية، أي أنهم يروننا أننا مثل النمل العامل، عبارة عن عمال بلا عقل ولكن على نسَقٍ واحد. وكلامُ السيد «كيناجاوا» صحيح، فمن يقرأ في أدبيات الإدارة والاقتصاد الغربيين يجد أن هناك كلمة ترِدُ دائما كصفةٍ للعمل الياباني في الشركات والمصانع وهي Uniformityوتعني الاتساقَ والنمطية. الآن عرفتُ أن اليابانيين ينصبّون على عملهم بروح التاماشي. وبفضولِ الجاهل رحتُ أتلمّس كتاباً مرجعياً عن «التاماشي» فقد أخذتْ كل انتباهي في الأيام الأخيرة، وعثرتُ على كتابٍ كالأيقونة لكاتبٍ ألماني عاش ردحاً من حياته في اليابان، والكتابُ أسميه أيقونة لأني وجدته في سوق الكتبِ الأكاديمية المستعملة ويرجع تاريخ طباعته إلى ثلاثين سنة وبلا غلاف، المهم أنه في معظمِهِ يدورُ حول الروح اليابانية العملية، وتعرفون الآن ما هي الروحُ البطلة في الكتاب؟ صحيح، إنها التاماشي. ولكن المؤلفَ يذكر أن «التاماشي» ليست دقيقة لو سميناها بالروح التي بالإنجليزية، فهي أقرب لكلمة Elan الفرنسية، أو Geist الألمانية، وفي رأيي أن أقرب ترجمة عربية لها هي «روح الإتقان». نعم .. روح الإتقان .. يا إلهي! قبل أن أنهي الكتاب أسرتني هذه الجملةُ في بابِهِ الأخير: « ولا نعرف في القيَم الدينية السماوية والوضعية مثل معنى للروح التي تصب مباشرة في حب العمل والتفاني فيه مثل ما هو عند اليابانيين وفي .. ديانة الإسلام!».. واللهِ دمِعتْ عيناي. أول ما يخطر في البال قول الرسول – صلى الله عليه وسلم -: «إن اللهَ يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه»، والمقصود العمل على إطلاقه. وقوله أيضا:« رحمَ الله امرأ عمل عملاً فأتقنه». وضعْنا.. يومَ أضَعْنا الإتقان!
إنشرها