Author

اسكُتْ!

|
.. «اسكُتْ»، أكثر فعل أمرٍ يرنّ كالجرسِ الصاخبِ في ذهننا، فهو ما يسمعه الطفلُ في البيت، واليافعُ في المدرسة، والمواطنُ في كثيرٍ من المواقف.. أمْرُ السكوتِ أمرٌ يبدأ ولا ينتهي، لأنه سينتقل من الآمر إلى المأمور، بالتبعيةِ والعدوى والاعتياد.. وتلك المُتعةُ السلطويةُ بأن تكون قادراً على جعل من هو أمامك يبلعُ كلامَه. بينما يقول لنا «أبو حيان التوحيدي»، وهو رجلُ الإمتاع والمؤانسة وبالكلام طبعا، (ودفـَع المسكينُ ثمن كلامِه غالياً، حتى قال صاحبٌ لهُ: ليته وُلِد أخرس!) في كتابه «المقايسات» أنه سمع يوما أستاذه سليمان المنطقي السجستاني يقول: «نزلتْ الحكمةُ على رؤوس الروم، وألسُن العرب، وقلوبِ الفرس، وأيدي الصين» يعني أن الرومَ أهل علم ومنطق، والعربُ أهلُ فصاحةٍ وبلاغةٍ، والفرسُ أهل فنٍّ وشعر، والصين أهل صناعةٍ.. وما زالوا!». في أيام «التوحيدي» وما قبله كان العربُ يرسلون أبناءَهم للبوادي لتعلم الفصاحة، فقد كان الكلامُ مقياساً لعقل الرجل ونباهته، ومدعاة لاحترامه، وكلكم تعرفون مواقف في العصور العربية الزاهرة كيف ينقذ الرجالَ أو النساءَ في مواقف تهدّد حياتَهم ألسِنتُهم وحسن منطقهم.. حتى جاء عصرُ «اسكتْ»، ولم تعد صفةُ الكلام ميزةً عند العرب، بل هم فقدوها، بل أكثر: خافوا منها. وبقي الرومُ أهل علم، وبقيت لأهل الصين أياديهم. وغالبا يكون السكوتُ عن الكلام المفيد والقوي والمواجِه والمبرِّر، ويبقى سخفُ الكلام طليقاً كما تنطلق الطيورُ حرةً في السماء.. فيأتي الأمرُ بالسكوت، وهذا أمرٌ محزن، عما هو جديرٌ بألا يُسكت عنه.. أي ما وُجد له الكلامُ في الأصل. وكان الكلامُ عند العربي سلوكا ومفخرة ودلالة نضج عقلي، بل حتى يعتمده أهلُ الفراسةِ كعلامةٍ لصفاءِ الدم، ونُبلِ الانتماء، ويتباهى العربُ بألسنةِ متحدثيهم وشعرائهم، ويقيمون المسابقات. والآن لم نفعل إلا الانصياع لأمر السكوت، وإن تكلم المسموحُ لهم بالكلام في المسابقات والمحافل فهي إما خطبٌ فارغة، أو غضبٌ فارغ.. وتبقى دررُ الكلام حبيسة في أغلالِ.. اسكُتْ! وأعتقد لو كنت مسؤولا في أسرة، أو في مجموعة، أو في مجتمعٍ لجعلتُ الكلامَ طقسا، لأن الكلام هو الذي يفصح عن الأفكار التي تدور بالرؤوس، وهذه الأفكار إما تخرج بالكلام وهو المتنفس الأمني كما يخرج البخارُ من متنفس المِرجل، أو أن هذه الأفكار إن لم تخرج فهي ستجدُ دائما طرُقا لاستمرار حيويتها وتدفقاتها، ولكنها ستتلفعُ بالسريةِ والحرص والكتمان، وعلمنا التاريخُ أن الأفكارَ السرية هي التي تغير العالم.. أحيانا للأسوأ، وأحيانا للأفضل، ولكن دائما لمن منـَعَها وأمرَ بالسكوت تكون في النهاية ضد ما أعتقد أنه من سياج أمنه، فإذا هو مدعاةُ قلاقله. فالعربُ تقول إن الكلام ترجمانٌ يعبّرُ عن مستودعاتِ الضمائر، ويخبر عن مكنوناتِ السرائر.. وبغير الكلام فلن نعرف أبداً ما كان في مستودع الضمير، ولا عن مكنون الأسرار. وقديما قال المعلمُ الأول سقراط لشابٍ يحضر حلقته كثير الصمت: «تكلم حتى أراك». وبهذا المعنى ذهب الإمامُ عليٌ - كرّم اللهُ وجهَه - حين قال: «تكلـّموا تُعْرفوا: فإن المرءَ مخبوؤٌ تحت لسانِه». واه.. ما أعظم الوصفَ وأعمق التصوير، المرءُ مخبوءٌ تحت لسانِه. والصمتُ غير الإخراس، بل إن الصمتَ يُمتدح بذاتِه عند موجباتِه ولائقيته ومناسباته، والقارئُ المتأمل في تراثنا الأخلاقي يجد الكثيرَ من الأقاويل المأثورة في الثناء على الصمتِ والصامتين، ويقرنون مع الصمتِ وشاحا نوريا من الهيبة، فالإمامُ علي بن أبي طالب هو الذي يقول: «بكثرة الصمت تكون الهيبة».. ولكن الصمت له كما أسلفنا مواجيب وطقوس وأجواء، ولكن الصمت قد يكون خيانة إن صمَتَّ عن الخطأ تراه يُرتكـَبُ أمام عينيك، وإن اُمْتِهَن حقـُّك وديست كرامتُك فتصمت، فإنها خيانة للنفس وخيانة للأخلاق والمبادئ المطلقة.. والصمتُ جبن عندما يكون صمتُ الخوفِ والهلع والخِشـْيـَة، والسكوتُ عن الجريمة - برأيي تزيد - على الجرم إلى الخيانة، كما أن التسترَ والصمتَ عن الفسادِ فساد. وللصمت بيئة غامرة للغرق في التركيز الروحاني، فكبار المتعبدين البوذيين، والهندوك، والكونفوشيين، والنساك في صوامعهم يستغرقون في الصمت حتى يغرقوا للوصول إلى الصفاء الذهني والروحي الكاملين باعتقادهم. وللصوفيةِ مقامٌ للصمت، ووصفوه بأنه أشرف الخصال، ويجدونه تعبيرا عن حيرةِ البديهة عند ورودِ الكشف، أي كشفُ الأسرار الكونية الكبرى، فيعبّرون بأن «البُغتة الإشراقية»، إذا حدثتْ، خُرِسَتْ العبارات فلا بيان ولا نطق، وانطمستْ المَشاهِدُ، فلا عِلمَ ولا حس! وفي الشعر الغربي يبدع الشعراءُ الحكماء والرومانس والمثاليين في الانعتاق للصمت، و»يونغ» هو الذي وصف موقف حبِّه بأن « الكلماتُ تصمت، والشعورُ ينساب..». على أن الصمتَ اختياريٌ، وكاد يكون من أفضل الشمائل، ويكون العكس في السكوتِ عن الباطل.. ولكن «اسكتْ».. هي التي توقف ملكات النمو التعبيري وربما الصحة الحاضرة العقلية.. وقبل الإقفال، أرى أن هذا البيتَ يختصر كل شيء: وفي الصمتِ سَتْرٌ للعييِّ وإنـّما صحيفةُ لبّ المرءِ أن يتكلمّا وحتى لا أؤمر بالسكوتِ.. فإني سأسكُت!
إنشرها