Author

عقلٌ يشرقُ عبرَ القرون

|
الأستاذ ''محمد ضيف الله'' من أبها، يسألني: ''كيف يجدّد الدين؟ أو ليس التجديدُ نوعا صريحا من البدع؟''. .. ولأهمية السؤال، وما يجري في أيامنا هذه، رأيت أن أخصص مقالة اليوم للسؤال، فالخلط العظيم يقع دوما بين معنى ''البدَع'' ومعنى ''التجديد''، مستدعيا هنا فكراً كبيراً لمفكّرٍ إسلاميٍّ كبير.. وهذا جهدٌ قليل لموضوعٍ جليل. أنا أحب يعض شخصياتٍ في الحاضر ومن التاريخ، وأتولـّه بها، ومن هؤلاء الأحباب الإمام المجدِّد أبو حامد الغزالي .. الذي هو من الذين أناروا لي دروباً كنت فيها من التائهين في الظلام. وأُعيدُ الأستاذَ محمد والقرّاء للعصر الذي عاشه الغزالي، وهو العصرُ العباسي الثالث الذي طغت فيه مظاهرُ الإسراف، ليس فقط في التعالي المظهري والمادي، ولكن في الثوراتِ الفكرية التي اتسمت بالجنوح في الخيال، والأخذ والنقل والاقتباس. ثم سادت فوضى فكرية عامة، فوضى مسَّتْ عقولَ الناس، وعقائدَهم.. عقائدهم؟ نعم، وهنا مكمن الفزع! لأن تخبّطَ العقائد هو علة الضياع، ومؤشِّر التـّيْه، وعامل الاضطراب. ولعلكم تعلمون أن هذه الفوضى قادت إلى مِلـَلٍ ونِحَلٍ ومذاهب شتى، ولكنها أخذت بُعدا تعدى التبادلَ الفكري المتعنِّت، إلى العنف والقتل بأحكامٍ وفتاوٍ من كلِّ قليل علمٍ اعتلى ركيّةً، أو استوى على منبر. وانحرفت عقيدة الأمّة إلى فروع من العقائد، بل بعضها (أو أكثرها) انقطع تماماً عن حوض النهرِ الأصيل، وصار يجري في الأرض منقطِعاً بلا نبعٍ ولا مصبٍّ، مسمِّمَاً كل من يرشف من مائه المتخمّرِ الخمِج. عندها كانت الحاجة ملحة للتجديد، والتجديدُ هنا يعني إعادة الفكرِ إلى مصبّ النهر، إلى المنبع الأصلي، لو قيض لي إعادة التسمية أو إخراج رديف لها، لسميتُها تطهير الدين، أي تنقيته من الشوائبِ والبدَع التي تحوّر روحَ الدين السابغ لخير الناس، إلى أرواحٍ مضطربة تتغذى وتنمو بالدم والفوضى.. وأحيلك إلى ما روي عن أبي هريرة، رضي الله عنه، أنه قال: '' إن اللهَ يبعث لهذه الأمّة على رأس كل مائة سنة من يجدِّد لها أمرَ دينها'' ويعني إعادتها إلى الجادة الصحيحة. ومفكرنا العظيم أبو حامد الغزالي نشأ في هذه الفوضى العارمة، ووسط عين هذه الأعاصير التي لفحتْ الأمّةَ بأساس عقيدتِها، وحين تقرأ المناخاتِ الفكرية في ذلك العصر تجد أن أرواحاً فكرية عقيدية تجول في كل صوبٍ في أنحاء أمّةِ الإسلام، إلا روحاً واحدة لا تعثر عليها.. روحَ الإسلام. لذا نذَرَ الإمامُ أبو حامد، الذي يعتبره مؤرخو الإسلام من المجدّدين المئويين، عقلـَهُ الجبّار، وطويّته النقية، ليعيد عقيدة المسلمين إلى حوضها الطاهر الأصيل .. وكان عملاً يضارع المستحيل، لمدى ترسخ ضروب الأفكار التي ولغـَتْ في أعصابِ الأمّةِ فكادت تعطلها. وعندما يُسَمّى أبو حامدٍ الغزالي ''حجة الإسلام'' ، فلا أجد إلا مصداقية يبرهنها تاريخُه الذي لم يهدأ فيه عقله يوما واحداً، محاورا ومفنّدا عشرات البدَع والأفكار والمِلـَل والاتجاهاتِ والمذاهب. فردٌ تصدي لجيوش .. تماما! أبو حامدٍ الغزالي شخصيةٌ آسرةٌ ، ويملك قدرةً ساحرةً في الحديثِ، وشخصية تضيء المكانَ، لذا شغـَفـَتْ به القلوبُ وتبعته، وكان تأثيره لا يجارى في عقول سامعيه وناقليه. لولا قدراته العقلية لكان التاريخُ اتـّخذ فصولاً أخرى ليست من مصلحة الدين.. درسُ الغزالي لنا: إن الذي يأسرُ عقولَ الناس هو الذي يستطيع أن يقرّب الناسَ، ويستولي على قلوبهم أولا، ثم تأتي العقول منقادة مطواعة. وهذا هو عين الذي يجري في أيامنا، إلا أن بين الذين لهم هذه الصفات هم من تلك الأرواح المضطربة القلقة التي تتقد وتنفجر طاقاتها بدم البشر.. .. على أن تاريخَ الأمَّةِ لم يربط العهدَ والميثاقَ مع تعاليم أبي حامد، وكان أن انحرف عنه شعُبا وطرقا ومذاهب وأشياعا. ووقعتْ الأمة في دوامةِ الضياع، ومسالك التيه. وهناك شيءٌ عجيبٌ يثبت كل حِقبةِ زمنٍ، ونقيض لما يقوله ابن خلدون في مقدّمته عن صعود وأفول الحضارات، وهو أن الأمة الإسلامية دوما تعود بعد ضياع .. وتعود قوية، لأن قوة هذه الأمة بذور سامية مغروزة في أرض ضميرها.. كلما حرثناها وسقيناها أزهرت وأثمرَتْ من جديد.. وأهم عناصر العودة المشرقة، يا أستاذ محمد، هو أن نفرق بين البدَع والتجديد.
إنشرها