Author

الاستثمار كالإبحار: حدّد اتجاهك وأثبت عليه

|
لدي صاحب عزيز (ولنسميه الهامور) قد فتح الله عليه مع فورة الأسهم، فبدأ يضارب فيها بشكل نشط منذ اكتتاب شركة الاتصالات السعودية في عام 2003. وقد حقق من ذلك أرباحا طائلة (اللهم لا حسد) مما جعله يترك وظيفته ليتفرغ للمضاربة، كما أنه تمكن من بيع منزله (الكحيان) وشراء قصر جديد. وبالرغم من أن صاحبنا الهامور لم يكن من ذوي الدراسة أو الشهادات في عالم المال أو الاستثمار، إلا أنه اكتسب خبرة جيدة في المضاربة بعد كل الوقت الذي كان يقضيه عليها. وقد كان سرّ نجاحه مقولة (كل فَطير وَطير)، أي أنه كان يدخل في سهم ما ويحدد ربحا معينا سلفاً (قد يكون ريالا أو ريالين أو خمسة) ويبيع بمجرد بلوغه (عادة ضمن فترة زمنية قصيرة). وبالرغم من عدم ميولي شخصياً إلى هذا النوع من المضاربة النشطة، إلا أنني أعترف بأنه كان ناجحاً فيها. ولكن ما دهَشَني أخيرا أنه لدى لقاء زميلي الهامور بعد غيابٍ طويل، وجدت وجهه قد ذبل ووزنه انخفض وعلامات الهمّ والكهل قد بانت عليه (بالرغم من أنه لم يكن متقدماً بالعمر). وعند سؤاله عن حاله مع المضاربة (والتي هي من مواضيع الحديث المفضلة في المجالس، إضافة إلى الحديث عن زحمة السير، وأحوال الجو والمطر) رد علي وكله حرقة "لا، أنا ما أضارب...أنا الآن أستثمر على المدى الطويل". ولدى استقصائي من زميلي الهامور وجدت أنه لم يصبح مستثمراً على المدى الطويل بخيار منه، بل أصبح كذلك لأن معظم الأسهم التي كان مضارباً فيها فقدت ما بين 50 و75 في المائة من قيمتها مما جعله (معلّقاً) بمراكز خسرانة. فلم يجد بداً من التحول من مضارب نشط إلى مستثمر طويل المدى أملاً أن تعود أسهمه إلى أسعارها الأولى على المدى الطويل. هل ترون الخطأ في هذا الموقف؟ لا، لست أقصد انتقاص المضاربة على إطلاقها، فبعض المضاربين حققوا مكاسب جيدة عبر السنوات الماضية. ولكن المضاربين الناجحين، والكثير منهم يعملون بمقولة صاحبنا الهامور ذاتها (كل فطير وطير) يتمتعون بقدر أكبر من الحزم من صاحبنا الهامور، فيطبقون المقولة على الربح والخسارة على حد سواء، إذ يكتفون بربح قليل في كل عملية ولكنهم أيضاً يوقفون خسارتهم بمجرد بلوغ حدّ معلوم من الخسارة. فمن يبتغي الربح القليل في كل عملية ينبغي عليه كذلك ألا يتحمل إلا خسارة ضئيلة في كل عملية قبل أن يقفل مركزه ويوقف خسارته (حتى لو كان يظن أن السوق أو السهم سيرتد قريباً، فقد يرتد بالفعل وقد يستمر بالهبوط فيحقق خسارة كبيرة). والحال نفسه بالعكس، فالمستثمر على المدى الطويل الذي يتروى في التحليل والتحري ومن ثم يقرر الدخول فينقلب السوق ضده قد يتحمل مقدارا أعلى من الهبوط والخسارة من المضارب النشط، لكنه في المقابل لا يكتفي ببضع ريالات من المربح لدى صعود السوق أو السهم، بل يبقى مستثمراً أوقات الصعود ليحقق أرباحاً أكبر. أما أن يكون الشخص مضارباً في أوقات الصعود فيكتفي ببضع ريالات من الأرباح في كل عملية، ومن ثم يتحول (بقدرة قادر) إلى مستثمر طويل المدى في أوقات النزول فيتحمل المئات والآلاف من الخسائر، فإن تلك معادلة لخراب البيوت. والأمر نفسه بالنسبة لأنماط الاستثمار الأخرى. فإن المستثمر الذي يعمل بالتحليل الفني لا ينبغي أن يتحول فجأة للتحليل المالي (والعكس صحيح)، ومستثمر القيمة لا ينبغي أن يتحول فجأة إلى مستثمر نمو (والعكس صحيح). لأن كل أسلوب يربح في أوقات وظروف معينة ويخسر في أخرى غيرها، وهذه الظروف تتواتر وتتكرر حسب الدورة الاقتصادية، والمستثمر الذي يتقلب من نمط لآخر ليلاحق ما هو ناجح اليوم يتعرض لخطر كبير وهو أن يكون قد اتبع نمطا ما في فترة قد يكون فيها غير مجدٍ فينتقل إلى النمط الآخر في نفس الفترة التي يصبح فيها النمط الأول مجديا. فعلى سبيل المثال مستثمر النمو عادة ما يأخذ بنفسية السوق والمتداولين فيه أكثر من أوضاع الشركات وبياناتها المالية، فمقولتهم المفضلة هي (مع الخيل يا شقرا)، بينما مستثمر القيمة على العكس يؤمن بشراء الشركة بسعر مجدٍ بغض النظر عن نفسية السوق والمتداولين، ولذا فمقولتهم المفضلة هي (الزين زين ولو ما قدره أهله). وكلا الفئتين حققا أرباحا جيدة في الماضي، ولكن في أوقات مختلفة. فقد كان السوق كريماً لمستثمري النمو منذ عام 2003 بينما بقي مستثمرو القيمة خارج السوق نظراً لتجاوزه معايير القيمة العادلة منذ أوائل 2004. وعند هبوط الأسواق، أولاً في 2006 ومن ثم في 2008، خرج معظم مستثمري النمو وبدأ يحل محلهم مستثمرو القيمة الذين بدؤوا بالدخول تدريجياً مع وصول الأسعار لمستويات مجدية وفق معايير التقييم المتعارف عليها. ولكن تصور لو أنك من مستثمري القيمة، فخرجت من السوق منذ 2004 أو لم تدخل فيه أصلاً، ومن ثم شاهدت مستثمري النمو يحققون أرباحاً طائلة، فتقاوم في البداية ولكنك تستسلم فتتحول إلى مستثمر نمو، صارخاً (مع الخيل يا شقراء) وتدخل في السوق في أواخر 2005، لتعاني من الهبوط من القمة دون أن تكون قد استفدت من الصعود من البداية كبقية مستثمري النمو الأصليين. فتصبح على قوله القائل (لا دنيا ولا آخرة). وأنت بهذا تكون كقبطان السفينة في وسط البحر الذي بإمكانه تثبيت وجهته على اتجاه واحد (أياً كان) ليصل إلى البر في نهاية المطاف، ولكنه إذا ارتبك وأخذ يغيّر وجهته بين الفينة والأخرى فإنه يأخذ في الدوران في وسط البحر دون أن يصل إلى البرّ حتى يهلك هو ومن معه. **** لهذا أنصح المستثمر الفرد أن يسأل نفسه الأسئلة التالية: * هل أنا مضارب أم مستثمر طويل المدى؟ فإذا كنت مضاربا ينبغي أن ترضى بالربح القليل في كل عملية، ولكنك كذلك يجب أن تلتزم بالبيع بعد حد معلوم من الخسارة. والعكس بالنسبة للمستثمر طويل المدى. * هل أنا أفضل التحليل الفني أم المالي؟ إذا اشتريت شركة بناء على التحليل الفني، لا ينبغي أن تبقيها إذا أعطاك التحليل الفني إشارة بيع لاحقاً، حتى لوكان التحليل المالي لها جيداً، لأن ذلك قد يكون من قبيل اختلاق الأعذار لنفسك لكي تبقى مستثمراً في السهم، مما قد يعرضك للخسارة. والعكس صحيح بالنسبة للتحليل المالي. * هل أنا مستثمر نمو أم مستثمر قيمة؟ فإن كنت مستثمر قيمة ينبغي عليك أن تحتكم للسعر العادل دائماً قبل الدخول في السوق أو في سهم ما، ولا تنقاد لعقلية القطيع مع فورة السوق. أما إذا كنت مستثمر نمو فينبغي عليك أن تكون أول من يدخل مع أول بصيص من التفاؤل في السوق وأول من ينسحب متى ما بدأ السوق في التقهقر، فلا تحاول أن تقتنص النزول قائلاً إن الأسعار جيدة للشراء، لأن هذا الأسلوب هو من اختصاص مستثمري القيمة. وبمعنى آخر فهناك أساليب عديدة للاستثمار، وكل منها له ميزاته وعيوبه. ولكني أدعو كل مستثمر لاستكشاف النمط الأمثل له من ثم الاستقرار عليه، وعدم التقلب المستمر من نمط استثمار لآخر لأن ذلك مدعاة لخراب البيوت. وهنا تظهر أحد الميزات الخفيّة لاستخدام صناديق الاستثمار. فصناديق الاستثمار تقوم بالإدارة نيابة عن المستثمر لذا فكل صندوق يختار نمطا من الاستثمار على حساب الآخر، ولأن الصندوق يتمتع بإدارة محترفة فإنها أكثر مدعاة للاستقرار مع النمط الذي اختارته وعدم التقلب من نمط لآخر، الأمر الذي يزداد صعوبة على الكثير من المستثمرين الأفراد.
إنشرها