Author

لم أعد أحتمل

|
كيف يمكن أن تحرّر نفسَكَ من شيءٍ لصق بروحك وقلبك، وغاص عميقا في وجدانك؟ أنا عندي الجواب.. لن يمكنك أبدا الانعتاق. إنه المستحيل لذا إن أمكنك ألا ترفق مواضيعَ خارجك ولا لك يد فيها أو عليها ولا مقدرة فافعل، قبل أن تدخل في هذا الكمين النفقي المظلم الذي سيكون كفيلا بطرد سوارح النوم من بين جفنيك، وسيطاردك، حتى لو أغفى الجفنانُ، في أحلامك.. ستتألم، وستتألم كثيرا، وسيطول الألمُ، وسيكون فوق التحمل، ولكنه رغما عنك سيسكن وجودَك، وسيقفز لك قبل كل بسمةٍ تريد أن تضعها على شفتيك، قبل كل محاولة لتنفس هواء الراحة.. ثم تغرق في شيءٍ أحدّ إيغالاً في القلق، وهو عندما لن تستطيع إقناع ذاتك بألا ذنب لك في كل ما يجري، ولكنه صراعٌ مع العبث.  لقد كتبت قبل أشهر هنا مقالا تضرعت فيه لمسؤولينا الصحيين بأن يقوموا بإرسال مريضة اسمها "عائشة الخالدي" إلى الخارج لإصابتها بسرطان نادر يبدأ في الثدي ثم يأكل الجلدَ، وتضرعتُ كثيرا، ولقد تم ذلك بالفعل، وراحت عائشة على حساب الدولة إلى واحد من أكثر مستشفيات الدنيا تقدما، فقد عولجت في كثير من المستشفيات والدول، وكل مرة لم ينجح العلاج وتسوء حالة عائشة.. وفي مستشفى مايوكلينك، في "جاكسون فيلد" بولاية فلوريدا الأمريكية، بدأت تـُعالج عائشة بعلاج كيماوي من أربعة أنواع جديدة، وبدأت حالتها تستقر، وكان الجو مليئا بالتفاؤل، فتصلني رسائل ومكالمات شقيقها "سلمان" وقد تغير صوته من اليأس والحزن إلى رنة الأمل والتعلق بالرجاء، وشعرت بأن ثقلا بدأ ينزاح عن قلبي، وأن هذه المسألة التي التصقت بعواطفي وأعصابي بدأت تنزلقُ رويدا.. ولكن، إن الكوابيسَ عندما تغيب فإنها تكون كامنة في كهوف الظلام والترقب الذي يتوقع أن يهوي السيفُ بأي لحظة، كوابيسٌ تأتي متوشحة بظلام الأحلام ، أو بضبابية النهار.. كلمني شقيق عائشة سلمان وقال لي: لقد تم إيقاف علاج عائشة، وعائشة علمت بذلك، تدهورت، وهاتفنا وزارة الصحة والملحق الصحي بواشنطن والنتيجة أن العلاجَ يجب أن يقف.. على عائشة أن تعود ولكن هناك مشكلة، والمشكلة ليست من مشاكل الورق اليومي، إنها مسألة حياة إنسان معلقة بخيط.. ولقد تم قطع هذا الخيط .. السؤال: من يجرؤ على عمل ذلك؟! أعطوني إنسانا به نقطة ضمير حي، ويأخذ قرارا مكتبيا وهو يعلم أن حياة إنسان قد هوى عليها السيفُ، وأنه هو الذي قطع الخيط المعلق به ذاك السيف.. أنا لا أعتقد أن أحدا يحمل الصفة الإنسانية بله المسؤولية أن يفعل ذلك.. لذا لم أصدق، وأخبركم بصراحة حتى الآن لا أصدق، لا يمكن أن يتجرأ واحدٌ من وزارة الصحة بإنفاذ قرار الموت لأي إنسان، فكيف إذا كان هذا الإنسان شابة سعودية تعاني أفظع أنواع الآلام، فإذا هذه الآلام تخف، والمرض يستقر.. قلت لكم أنا مذهولٌ جدا، ومنزعج بشكل يربك صفاء تفكيري، لأن الحدثَ فوق حتى احتمالية أن يكون، ولكن الشقيق القِلقَ يتصل بي يوميا وهو يتوسل: "أختى تموت ، افعل شيئا!" حتى أني جبنت في لحظات فلا أرد على الهاتف، لأني أعرف أني لن أقضي بقية يومي كبقية الناس، وسأعود إلى كهف الألم وكوابيسي تنتظر وصولي.. وأبرر لنفسي أن الرجلَ يبالغ، وفقد اتزانه لأن أخته مريضة فلا يمكن أن يقوم أحدٌ متعمدا بذلك، لا أصدق أن سعوديا واحدا، ولو على حياته، يسهم في موت مواطن أو مواطنة .. لا يمكن حتى التفكير في ذلك، وسلمان، حين يقتنصني، يقول لي: "إن الطبيبَ يقول لو غادرت المستشفى فإنها حتما ستموت، ولن تصل حية لبلادكم.." قلت له: "أثبت لي"، وبعث لي بتقريرٍ من طبيب عائشة الأمريكي، وسأترجم لكم الخطابَ بعيدا عن المصطلحات الطبية، صحيح أني لم أجد فيه ما قاله الطبيب شفويا لسلمان عن أنها ستموت لو خرجت، ولكنه كاد يقول. إليكم بعضا من الخطاب بترجمتي: الآنسة عائشة وعمرها 36عاما، تعاني مرضا سرطانيا فريدا، يبدأ من الثدي ويسري في الجلد، وقد عولجت بعدة أشكال وطرقٍ من أنواع العلاج، في عدة بلدان، على أن أيا منها لم يجد. وفي "مايو كلينك" بدأناها بعلاج كيماوي رباعي لحالتها، حتى استقرت الحالة، على أن هذا العلاج سيتطلب منها البقاء في المستشفى بين ستة أشهر إلى سنة. وأني أوصي وبقوة بأن تبقى في المستشفى لمواصلة علاج مرضها، وسنحاول بكل وسائلنا وجهدنا أن ننقذ حياتها، آملين حتى إقصاء المرض. ومن مصلحة المريضة القصوى البقاء في هذا البلد (أي الولايات المتحدة الأمريكية)، من أجل إنقاذ حياتها...." إلى آخر الرسالة. هل التقريرُ كاذب؟ هل التقريرُ مزيف؟ الله وحده هو الذي يعلم، ثم من لديه دلائل العلم.. وإن كان هذا التقريرُ صحيحا ودقيقا، فأسألكم أمام الله: من يجرؤ أن يقطع الخيط ليهوي على رقبة عائشة؟ ويا سلمان اعتقني فليس بيدي شيء، فأنا لم أعد أحتمل!
إنشرها