Author

الهَوا هوانا

|
.. ونقولُ دائماً: أعطِ شيئاً للشبابِ ليعملوه وسيبهرونك. مرة أخرى يثبت الشبابُ ذلك في حملة "الهوا هوانا". أنظر فقط اسم الحملة، انظر الذكاء في دمج عنوان أغنيةٍ تردّدتْ على الأسماع لأكثر من ثلاثين عاماً لواحدٍ من أكبر مطربي العرب، إلى استعارتها بذكاءٍ لشيءٍ أهم وأرقى.. فبينما كانت الأغنية الشهيرة لعبد الحليم حافظ هي "الهوى هوايا"، فكان يترنـّم طربا بالحب، ثم إن فيها الصيغة الذاتية، بأن الحبَّ له وحده.. والتحوير الراقي أن الشبابَ يقصدون بِـ "الهوا هوانا"، هذا الهواءَ الذي يحيط بنا كلنا ونعيش به وعليه، ولكي نعيش عليه بصحةٍ موفورةٍ فيجب أن يكون نقيّاً خاليا من الملوِّثات.. والملوثات المقصودة هنا هي ملوثاتُ التدخين السلبي.. أي حين يلوث المدخنون هواءَ الجميع هواءهم وهواءنا.. لذا لمعت الفكرة العبقرية وجاء الاسمُ صدّاحاً ومعبّرا، وهذا برأيي ما عجزت عنه كل الحملاتِ الرسمية التي تضع الكلمات الصارمة والتنفيذ الأكثر صرامة.. لقد اعتمد الشبابُ بحساسيتهم المفرطة، ونباهتهم اللحظية، على أن استقطاب الأذن قد يكون هو فاتحة الاستدراج للقبول والتجاوب.. ألم يقل الشاعر العربي: "والأذنُ تعشقُ قبل العيْنِ أحيانا"؟ على أن أحدَ الشباب المنظمين هاتفني مستاءً من الانتقاد الذي جاءهم، والموانع، والاحتجاجات، ورأيتُ ذلك مقياساً من مقاييس النجاح، دائما نقول للمتذمرين من انتقادات أعداء العمل، لا تبتئسوا إن انتقدكم غير العاملين أو غير المستفيدين أو الغيورون، بل إن هذا دليل على التأثير، وهو مقياس صحيح لمدى النجاح بمعنى أن كل ما كثر حولك الناقدون المتقاعسون كان هذا إثباتا على تفوق ما تقوم به.. وللهِ درّ عميد الأدب العربي "طه حسين" الذي كتب جملة كإهداء لكتابه الشهير (الأيام) حين قال: "أهدي كتابي هذا للذين لا يعملون، ويؤلمهم أن يعمل الآخرون". جملةٌ تحمل من حرارة الصدق، وأثر التجربة ما تكفي لتكون منارة هادية لكل القوارب الخائضة في بحر التطوع والإنجاز. وعندما تحقق أهدافك من وراء الإنجاز فلن تعود تهتم بالانتقاداتِ الضحلة.. ولن يُقـَيـَّض لك الإنجاز أن استرقتَ النظرَ وراء أكتافِك لترى ما يعمل ويقول المنتقدون، فمن ينظر للوراءِ ولو لحظة قد يقع في عثرةٍ أو حفرةٍ تعيق أو تبطئ باقي الطريق، مفتاحُ الإنجاز دوماً هو الإصرارُ على السير قـُدُماً على المنهج الذي عبَّدْتـَهُ للوصول لأهدافك. وكان هدفُ الحملةِ وهدفُ الشباب وهدف جمعية مكافحة التدخين موحَّدا في الحدَّ من ظاهرة التدخين في الأماكن العامة.. على أن الهدفَ من إصرار الشباب على المضي، وانخراط أربعين شابا بالعمل التطوعي البحت، مضحين بأوقاتٍ ثمينةٍ لعدة أيام من دراستهم أو أعمالهم، وبتمويل ذاتي بحت، حيث لا يكون هناك أي تأييد مالي لا خاص ولا رسمي، ولا شركة راعية، هو حبهم لمجتمعهم وناسهم. كان الشبابُ الأربعون وحدهم مع إصرارٍ يهز العوائقَ وكان ذلك كافيا لتنجح الحملة بأول مرحلة، بل وأن تتزحزح أهدافُها قليلا للأمام.. فقد كان هدفهم عدم التدخين في الأماكن العامة، وإذا بالأمرِ يتعدى بالتوافق والتأثير وذلك الذي أسميناه مرونة الاستجابة بأن المدخنين في قاعة السوق الذي أقيمت به الفعالياتُ لم يبادروا فقط بعدم التدخين، بل إن كثيرا منهم تخلص من كامل العُلـَبِ الموجودة في جيوبهم.. نعم قد يكون إجراءً وقتيا للمدخن، وقد يكون دائما.. لكنه دليلٌ شاهقٌ على قوة التأثير في اللحظة، وقد تمتد وقد لا تمتد، والمعنى أن تكرار هذه الحملات والإصرار عليها كفيلٌ بتغيير نظرتنا الكلية في هذا الموضوع، وبشكلٍ نهائي مع الأيام. وكان دورٌ للأطفال المتطوعين أيضا- وانظر لعبقرية التوالد الخيّرة- فهؤلاء الصغار في تأديتهم لأدوارهم في الحملة انغرس أثناء الإجراء في ضمائرهم ووجدانهم الإقبال للعمل التطوعي، بينما كان الهدفُ هو التأثير، لكونهم أطفالاً، في الكبار ليتوقفوا عن التدخين في المكان العام.. ستون طفلا متطوعا داروا المجمع التجاري، وكان المنظرُ مثل ما توحي به لوحات "جوجان" في الجزر الاستوائية، باستلام الزهرات المتكسرة وتحويلها إلى عطرٍ يفوح في الأرجاء، وكان عطرُ الفنان الفرنسي العظيم الألوان، وكان عطرُ الصبية الصغار البراءة والجمال.. والتضرع للكبار حتى لا يلوثوا رئاتهم.. ولا رئاتنا. فالهوا هوانا.. ونشكر جمعية مكافحة التدخين بالمنطقة الشرقية على حرصها في الاستعانة بالشباب الذين لم يخذلوها- وشباب هذه الأمة لن يخذلوها أبدا، حتى لو توهّمنا فيهم الخذلان- ومبادأتها بوضع صندوق زجاجي فيه فعليا قلبُ مدخنٍ توفي من فرط التدخين، ورئة متوفـَّى آخر تفحمتْ بسبب التدخين.. وتأثير ذلك في المدخنين كان صاعقا وفوريا فامتلأ بسرعة الصندوقُ الذي تـُرمى به علبُ السجائر.. نعم قد يتضايق مدخنون شرهون فينتقدونكم يا شباب، أو تضايقكم شركات منتفعة.. ولكن كل هذا متوقع.. لأنهم إن لم يحتجوا فهو دليلٌ على عدم تأثيركم.. نجاحكم هو الذي يدير رؤوسَهم ويضيّع بوصلة اتجاهاتهم. وأقترح على الشبابِ توسعة حملتهم بما أنها عن الهواء بالتطرق للتلوثِ الناشئ من عوادم السيارات، ومداخن المصانع، وبقيةِ الملوثات الهوائية. فلا حقَّ لأحدٍ على الإطلاق في تلويث الهواء.. فالهوا هوانا!
إنشرها