أكثر من 270 ألف مواطن يتزاحمون على وظائف جندي؟!
هل يعقل أن يتقدم أكثر من 270 ألف شاب للتنافس على شغل ثمانية آلاف وظيفة جندي في الأمن العام دفعة واحدة، من كافة أنحاء المملكة، (صحيفة الجزيرة 13/5/1430هـ)، لولا أن هؤلاء الشباب قد وجدوا أن الطرق قد سدت أمامهم بهذه الجحافل التي تربو على ثمانية ملايين عامل، القادمة من كل أنحاء الدنيا للاستيلاء على مختلف أنواع فرص العمل، بمساعدة السلطات المختصة بالاستقدام والتوظيف، التي فتحت الأبواب على مصاريعها، أو تركتها بدون مصاريع، ليدخل منها كل من عجزت بلدانهم عن توفير فرص العمل لهم..!
وهل يعقل أن ذلك سيحدث لولا أن هؤلاء الشباب قد أوصدت أمامهم فرص العمل، عن سابق عهد، في القطاع الخاص، ولم يعد أمامهم إلا وظيفة جندي يتزاحمون عليها لكونهم يعلمون أنها هي الوظيفة الوحيدة المقصورة عليهم؟! تصوروا لو أن هذه الوظيفة مفتوحة للشابات أيضا، فكم سيكون عدد المتقدمين لها؟! إنه سيرتفع، بلا شك، إلى الضعف، بل أكثر، لأن عدد العاطلات أكثر من العاطلين من الذكور..! هذا التزاحم يعد مؤشرا خطيرا على وضع البطالة، لا يمكن أن يحدث مثله في أي بلد... لقد أحسنت مدينة التدريب في الأمن العام بفتح التسجيل للوظائف عن طريق موقعها في الإنترنت، وفقا للشروط التي وضعتها، وأدناها مؤهل الثانوية العامة، وذلك لتوقعها زيادة أعداد المتقدمين عن أن يستوعبهم أي مكان أو مبنى، حتى لو استعانت بقصور الأفراح، التي انقلبت أتراحا على أصحابها بسبب هجر الناس لها مع تقلص دخولهم بسبب الأوضاع الاقتصادية.
ولعل "الأمن العام" قد استفاد من تجربة سيئة سابقة لمعهد الجوازات في التوظيف حين كان يستقبل طالبي التوظيف على وظيفة جندي مباشرة، عندما أعلن عن طلب شغل 500 وظيفة جندي، فتدافع ما يفوق عشرة آلاف شاب، متأبطين ملفاتهم الخضراء العلاقي الشهيرة شهرة البيروقراطية في بلادنا، وبدأوا في التجمع منذ ظهر اليوم السابق لموعد التقديم، حتى ضاقت بهم الطرقات المحيطة، وبدأت بوابات المعهد تهتز تحت ضغطهم، وسقط منهم من سقط مغمى عليه من الإعياء والزحام، وهو ما دفع إلى فتح البوابات منذ منتصف الليل ليزيد التدافع والازدحام، ويؤدي الأمر بالمسؤولين إلى الاستعانة بمكبرات الصوت للتهدئة، والاستعانة كذلك بقوات أمن إضافية للسيطرة على الموقف، حيث قضى معظم المتقدمين ليلتهم وقوفا أو في سياراتهم (صحيفة "الاقتصادية" 3/4/1427هـ)، وقد نشرت الصحف المحلية يوم 22/3/1427هـ صورا لمناظر مؤلمة جسدت ذلك الحدث، وبقيت شاهدا على تفاقم مشكلة البطالة في بلادنا! .. التي يؤكد ازدياد خطورتها التدافع الهائل على التقديم لوظيفة جندي في الأمن العام مؤخرا! ...
ويقول المقدم أحمد المحرج مدير شعبة القبول والتسجيل في الأمن العام إن لديهم من العام الماضي 500 شخص على قائمة الانتظار سيخصص لهم جزء من الوظائف المعلنة (صحيفة الجزيرة 14/5/1430هـ)، كما يشير إلى أنهم سيستقبلون 200 متقدم يوميا لمقابلتهم وإنهاء إجراءاتهم (انتهى كلامه)، وهذا يعني.. بعد استبعاد العطلة الأسبوعية، أن المقابلات، بهذه الحسبة، ستمتد إلى خمس سنوات! .., وأنه سوف يموت من يموت من الجوع أو غيره قبل أن يأتيه الدور للمقابلة، ثم إن المختصين سيحتارون فيمن يختارون من بين المتقدمين، وأن من تقدم سيظل معلقا في انتظار الرحمة أو الموت! ... أنا أتكلم وأمامي تصريح سعادة المقدم، وأتمنى أن يكون فيما نشر خطأ ما! ..
ألا تكفي هذه الأمثلة لأن تهتز مشاعر كل ذي ضمير حي في هذه البلاد يشارك أو يشترك في إغراق البلد بالاستقدام، وأبناؤه يجترون البطالة والفراغ، في انتظار الإعلان عن وظيفة جندي؟!
سبق أن نقل عن معالي وزير العمل في مناسبة سابقة (أن من ينتظر السماء لكي تمطر وظائف حكومية سيطول انتظاره) ونقول إن السماء أمطرت هذه المرة لكنه مطر مثل مطر (مراويح الصيف) لا يكاد يبل الأرض، أما مطر الوسم الغزير، المتمثل في وظائف القطاع الخاص، فالمواطنون يموتون عطشا وهم ينظرون إليه بحسرة..! وسبق أن نقل عن معاليه (أن حملة الثانوية العامة من المواطنين غير مؤهلين لسوق العمل) بينما غيرهم من حملة الابتدائية أو أقل، مؤهلون؟! أما التدريب فنحن متكفلون به لهم، وكأن بلدنا أصبحت ميدانا كبيرا لتدريب العمالة، وها هو معالي محافظ مؤسسة التدريب المهني والتقني يؤكد على أن (84 في المائة من العمالة الوافدة في المجتمعات الصناعية الكبرى مثل الجبيل وينبع مؤهلاتهم دون الثانوية العامة، وأن بعضهم أمي) (صحيفة الرياض 27/5/1430هـ) وتعقيبي، بلسان المواطن، هو إذا كان هذا هو حال المجتمع الصناعي، فليس بمستغرب أن يكون هذا هو حال مجتمع الأعمال بعامة في بلادنا، التي تسيرها العمالة الوافدة..! لكن المستغرب أن نصف أبنائنا، من حملة الثانوية العامة، بالأمية في التأهيل لسوق العمل..! أليس في الأمر تناقض؟!
أرجوا ألا نوجد مزيدا من المبررات للقطاع الخاص للعزوف عن توظيف المواطن، فهو لا يحتاج إلى مبررات أصلا..!
وأخيرا: لقد كتبت عن مشكلة البطالة الكثير (عشر مقالات) وكتب غيري أكثر، ولا أدعي أنني أهتم أكثر من غيري بالأمر، لكن نظرتي إليه تنبع من أن مشكلة البطالة مشكلة متعدية، ينشأ عنها مشكلات خطيرة، أخلاقية، أمنية، فكرية، واقتصادية، ولأنني أرى أن (جحا أولى بلحم ثوره)، وأن المواطن لم يسهر على تربية ابنه وتعليمه لكي يتلقفه الرصيف أو الشارع، أو ربما يتلقفه من يوفر له المال من خلال مسارب المخدرات والإرهاب، أو لكي ينتظر الإعلان عن وظيفة جندي يجد مئات الآلاف يصارعونه عليها..! إن ما يحدث في سوق العمل من محاربة المواطن واحتضان الوافد، ووجود أكثرمن نصف مليون عاطل، لا يتفق أبدا مع توجه خادم الحرمين الشريفين وما نسمعه منه من تقريب للمواطن، وتقديم له على غيره، وتسخير موارد البلاد وإمكاناتها لخدمته ورفاهيته، وسيأتي يوم يُسأل فيه كل من قصر في أداء ما أؤتمن عليه.
والله من وراء القصد.