ما يجري في سوق العمالة المنزلية هو المتاجرة بالبشر بعينها!!
كتبت عددا من المقالات، وكتب غيري أكثر منها، حول ما يجري في سوق العمالة المنزلية من تلاعب واستغلال لظروف الأسر، والاستيلاء على مدخراتها بالباطل، وما يمثله ذلك من متاجرة واضحة بالبشر نهى عنها الدين الإسلامي، قبل أن تنهى عنها وتمنعها الاتفاقيات الدولية، ومعاهدات حقوق الإنسان، ومبادئ الأخلاق الإنسانية والأعراف الدولية، وكل ما يمت إلى الحياة الكريمة التي كفلها رب البشر لعباده، بصلة!!..
وكنا نظن أن الجهات المسؤولة عن تنظيم وضع العمالة الأجنبية في المملكة ومتابعتها، وفي مقدمتها وزارة العمل، ووزارة الداخلية، ممثلة في قطاع الإقامة والجوازات، والجهات المسؤولة الأخرى في المملكة، عن حماية حقوق الإنسان، مثل هيئة حقوق الإنسان، والجمعية الوطنية لحقوق الإنسان، يضاف إليها كل من يشهد المهازل التي تجري في نطاق العمالة الأجنبية، ولا سيما العمالة المنزلية، ويسكت عنها، كنا نظن أن كلا منها ستأخذه الغيرة على الوطن والمواطنين، ويتحرك، ولو في الحدود الدنيا من مسؤولياته وواجباته الأخلاقية، لعمل أي شيء للحد من ظاهرة المتاجرة الواضحة للعيان، وشهودها وشواهدها قائمة في كل بيت، وكل أسرة تعرضت لهروب عمالتها، واضطرت إلى البحث عن البديل لدى من يمتهنون هذه المتاجرة على رؤوس الأشهاد، ولا يتورعون عن ملء الصحف بالإعلانات عن توافر هذه العمالة (للبيع)!! نعم للبيع؟! فقد أصبح هذا المفهوم دارجا على لسان المتاجرين، وكثيرا ما نسمع عبارة (هذه الخادمة كلفتني كذا وأنا لا أبيعها إلا بكذا)، في مجتمع يرى أنه أكثر المجتمعات تمسكا بتعاليم الدين الإسلامي!...
في صحيفة واحدة فقط هي (الرياض) وفي عدد واحد هو الصادر بتاريخ 20/3/1430هـ ظهر 21 إعلانا عن توافر (خادمات) منزليات (للتنازل)، والتنازل تعبير مجازي للمفهوم المقصود وهو (البيع)!...، حتى اسم (خادمة) أصبح هو المستعمل بدلا من اسم (عاملة) الذي تنص الأنظمة على ضرورة استعماله، ولو قدر لك، أيها القارئ العزيز، أن تتصل عن طريق تلك الإعلانات بأصحابها، وهي ليست صادرة كلها من مكاتب استقدام مرخصة، فستجد أن مصدر بعضها أناس وجدوا في هذا العمل مصدر دخل، لا يهمهم حرمته من حلاله!. وستجد أن الأسعار تحدد حسب الجنسية، فالعاملة الفلبينية لا يقل سعرها عن 16500 ريال، والإندونيسية 15000 ريال، والسائق 10000 ريال، مقابل نقل الكفالة، وهكذا، لكن عليه (أي المتصل) أن يتنبه، فلو قيل له إن العاملة مدربة، وملمة بالأعمال المنزلية، أو أن السائق يعرف القيادة، وملم بشوارع المدينة، فلا يصدق، فمعظم هذه العمالة مرفوضة من كفلائها، إما لسوء سلوكها، أو لعدم إلمامها بالعمل الذي قدمت من أجله ومنهم من يرفض العمل لدى كفيله، عندما يسمع عن أسعار الرؤوس!.. فيذهب إلى المكتب الذي استقدمه لكي يتم تسويقه من جديد، وربما يهرب من كفيله الجديد، بعد مدة التجربة التي لا تزيد على أسبوع!...
ولو أردت استعارة خدمات أحد تلك العمالة بصفة مؤقتة، فإن مرتب السائق لن يقل عن ألفي ريال، والعاملة 1700 ريال شهريا، أي أعلى مما يجده المواطن الشاب، حامل الثانوية العامة!.. وإنه لأمر عجيب أن يجد العامل والعاملة العادية مرتبا أعلى من ابن الوطن المؤهل، وأن يجد من قدم من أكثر الشعوب جهلا عملا وابن الوطن يجوب الأرصفة جيئة وذهابا، في وقت نفتخر فيه بأننا نؤوي ثمانية ملايين عامل!...
وجه آخر من أوجه الاستغلال، أو بالأحرى (الاستعباد) تمثله ظاهرة السماح لمكاتب الاستقدام باستقدام العمالة العادية ثم تأجيرها لمن يرغب، فمعظم هذه العمالة تستقدم براتب لا يزيد على 400 أو 500 ريال، لكنه يتم تأجير العامل منها بما لا يقل عن 1500 ريال شهريا، بحيث يستأثر المؤجر بضعف ما يعطيه للعامل، وهو ما يمثل أبشع معاني المتاجرة، إذ لا يسوغ لا دينا ولا نظاما أن يتعاقد شخص مع عامل براتب محدد، ثم يؤجره لشخص آخر بثلاثة أمثال راتبه، ليستولي على معظم هذا المبلغ... ومع هذا كله، وفوق هذا كله مما يجري هناك من ينادي بتكوين شركات مساهمة للاستقدام، ليزيد الأمر احتكارا واستغلالا، وكأن الاستقدام منفعة عامة للمواطن، تؤسس لها شركات خدمات عامة، وليس كما هو الحال، مجالا للتلاعب والكسب غير المشروع!... هذا في وقت يتمنى فيه المخلصون للوطن أن يتقلص حجمه، ويتضاءل شرّه، خاصة وقد غصّت بلادنا بالمستقدمين، ناهيك عن القادمين عنوة، ولم يبق شجر ولا حجر إلا وتحته عمالة أجنبية!...
الغريب أن الكل يتغاضى عن المشكلة، ويحيلها إلى وزارة العمل، وصحيح أن وزارة العمل هي المسؤول الأول، ولكنها ليست وحدها، فهناك جهات أخرى مسؤولة، مثل من ذكرت آنفا، وهناك المواطنون الذين يتقاتلون عند بوابات مكاتب الاستقدام، وهم يعلمون أن وقوفهم ليس من حاجة، بل للمتاجرة، بيد أن وزارة العمل التي يبدو أنها آثرت فتح البوابات من كثرة الطرق والتدافع خلفها، لم تعد قادرة على الصمود والتحكم في تلك البوابات، وأصبح حالها كحال بواب على حديقة جميلة، مليئة بالورود والرياحين، هجم عليها قطيع من الماشية، لم يستطع البواب صدها، فعبثت بالحديقة وسكنتها، وضايقت من كان يتنزّه فيها!...
أقول لكم قبل الختام حكاية، للعبرة، تناقلها الناس عن مواطن ذهب مع عائلته، ترافقهم (عاملة منزلية)، إلى الولايات المتحدة، وعند الحدود سأله رجال الأمن عمن تكون التي معه، فذكر لهم أنها خادمة العائلة، فنهره رجل الأمن قائلا: إنها موظفة وليست خادمة، وتعرض بسبب ذلك للإيقاف والتحقيق!... وقد ذكرت الحكاية من باب تنبيه العائلات وأربابها، الذين (يسحبون) معهم عاملاتهم إلى أصقاع الأرض، ولاسيما أمريكا وأوروبا، بأن لا ينادونها باسم (خادمة) أو (شغالة) لكي لا يتعرضون للمساءلة، أما هنا فليأخذوا راحتهم، لأنه لن يسألهم أحد!!..
وأخيرا أتساءل: هل هناك من يعي المشكلة بأبعادها السيئة على المجتمع، وعلى سمعة المملكة؟! ... وعلى فرض أن ثمة من يسمع، فهذه بعض المقترحات لتعديل الوضع، ولا أقول إصلاحه، فإصلاحه كلية يتطلب إصلاح الذمم والضمائر لدى كل من الموظف والمواطن وأصحاب المكاتب:
1- منع نشر الإعلانات عن عمالة للتنازل، والمقصود به (البيع)، وإيقاف نشر غسيلنا على العالم، فهناك من يتربّص ويتصيد أي فرصة للإساءة إلى سمعة المملكة، وعلى من يبحث عن عمالة، أن يذهب إلى مكاتب الاستقدام.
2- صرف النظر عن إنشاء شركات مساهمة للاستقدام، لأن ذلك سيؤدي إلى مزيد من الاحتكار والاستغلال، بحكم أنها ستبحث عن الربح بأي شكل، كما يفعل أصحاب مكاتب الاستقدام!..
3- جعل مدة تجربة العاملة أو العامل اللذين يتم التنازل عنهما، مماثلة لمدة تجربة من يتم استقدامهم، وهي 90 يوماً.
4- التأكيد على استخدام اسم (عاملة) بدلاً من (خادمة) أو (شغالة)، الذي يخالف تعليمات الحكومة، ومعاهدات حقوق الإنسان! ومجازاة من يخالف!.
5- عدم السماح لمكاتب الاستقدام بإحضار عمالة للتأجير المؤقت، إلا بضوابط تحدد أجر العامل، ونسبة ما يحصل عليه المكتب، وإعلان ذلك للملأ، حماية للحقوق، ومنعاً للاستغلال، والمتاجرة.
والله من وراء القصد.