الملحقية الثقافية في لندن ورحلة الانتقال

الانتقال لم يكن عاديا ولا طبيعيا بل كان أشبه بالمفاجئ, لم يكن سهلاً بل فرضَت الحاجة الماسة السرعة في الانتقال, ليس من مبنى إلى آخر, بل انتقال في الأداء والفكر والمعاملة والخدمة والتخطيط. رحلة الانتقال القصيرة السريعة هذه كانت جزءا مهما من الثورة التعليمية في مملكتنا والتحول نحو مجتمع معرفي كان ولازال التعليم من قلب هذه الثورة التي خطط لها وأحدثها قائدها خادم الحرمين الشريفين – حفظة الله - اعتمد على نجاح عملية الانتقال هذه مستقبل آلاف الطلبة المبتعثين, فلقد أتت مرحلة الانتقال كنتيجة مباشرة لزيادة أعداد الطلبة المبتعثين لمستويات عالية لم يكن لدى الملحقية الثقافية في لندن الاستعداد أو الإمكانيات اللازمة لخدمة هذه الأعداد, فهذه الأعداد لم تضاعف مرة أو مرتين فحسب بل ضوعفت أربع مرات في غضون أشهر قليلة جداً لم تتعد العام الواحد. ففي عام 2007 كانت أعداد المبتعثين أقل من 4000 طالب وطالبة وفي أواخر 2008 قارب عدد المبتعثين نحو 14000 مبتعث ومبتعثة.
تخيل معي خدمة كل هذه الأعداد في مبنى قديم متهالك تخطى سلبياً كل معايير الصحة والأمن اللازمة في أي مبنى! وتخيل معي خدمة كل هذه الأعداد في مبنى لا يوجد به أي نظام كمبيوتري يحفظ المعلومات ويسهل من عملية تقديم الخدمات والرفع من فاعليتها! وتخيل معي خدمة كل هذه الأعداد بعدد قليل جداً من المشرفين الأكاديميين المهمين في تقديم النصح والإرشاد للمبتعثين والقيام بالمتابعة والإشراف على دراستهم! وتخيل معي وضع المشرفين في العمل في مكاتب ضاقت بملفات الطلبة وكبائنها, لم يعد للهواء متحرك وأجساد الطلبة اللاهثة من القلق قد ملأتها! وتخيل معي كيف للطالب من الوصول إلى مشرفه بين كل هذه الأجساد التي تؤدي صلات الجمعة بين مكاتب المشرفين وفي الممرات وحتى خلف مكتب الملحقة نفسه! كان الوضع أكثر من مأساوي وكان الوضع يستدعي إحداث تغييرات سريعة, جوهرية وكبيرة من قبل وزارة التعليم العالي.
واجهت وزارة التعليم العالي هذا التحدي الهائل بتعيين الأستاذ الدكتور غازي مكي في أواخر عام 2007, وهو عام فيضان الابتعاث إلى بريطانيا, ملحقاً ثقافياً في لندن خلفاً للدكتور عبد الله الناصر الذي خدم المبتعثين والحضور الثقافي السعودي في العاصمة البريطانية لأكثر من 20 عاماً. عمل غازي مكي مع معالي وزير التعليم العالي الأستاذ الدكتور خالد العنقري على خلق نقلة نوعية في خدمات الملحقية المقدمة للطلبة. لم يكن الدكتور غازي يدير شؤون الملحقية وطلبتها بالتفويض أو الإنابة بل كان مباشراً مخلصاً متفاعلاً مع الطالب والمشرف والجامعة بنفسه وليس غيره. زار الجامعات وناقش أمور الطلبة وفاوض تكاليف دراستهم, فلم يصدر شيكاً إلا وهو متأكد من أن الجامعة لا تتقاضى عن الطالب السعودي إلا كما تتقاضى أو أقل من طلبة الدول الأخرى, موفراً الملايين من ميزانية الابتعاث. كان الرجل المناسب في الوقت المناسب وفي المكان المناسب, لم أعرفه إلا عندما طلبت الملحقية مني حضور اجتماعه مع مدير جامعة مانشستر ومع الطلبة المبتعثين فيها. كان لطيفاً مباشراً مستعداً بقائمة من نقاط النقاش المتعلقة بطلبة محددين بأسمائهم أو بمشرف في الجامعة قبل أكثر من سعودي أو بطلب أن تكون تقارير الجامعة عن كل طالب دورية واضحة ومفصلة. أطري عليه اليوم لأنه لم يستغل موقعه كملحق ثقافي لخلق علاقات ووجاهة, أطري عليه لأنه عين في وقت صعب ليدير مرحلة انتقالية ضخمة في خدمات الملحقية في لندن فكان رغم كل الضغوط يعمل بجهد كبير وبإخلاص وتفاني قل من يشابهه فيها. أطري عليه لأن المخلصين أمثاله للمملكة لا يأخذون حقهم في الشكر والعرفان بما يقومون به, فهم بتواضعهم أقرب لطالب الخدمة من مراكز السلطة وجاهتها.
اليوم تسكن الملحقية بيتاً جديداً افتتحه منذ أسبوعين سفير خادم الحرمين الشريفين سمو الأمير محمد بن نواف ومعالي وزير التعليم العالي. عمل الدكتور غازي وفريقه على تجهيزه وتطويره لكي يكون مركزاً عصرياً ثقافياً تعليمياً يرفع من مستوى تجربة الطلبة المبتعثين ولكي يضمن إعطاءهم أفضل فرصة لاستغلال البعثات المعطاة لهم لتحصيل معارف وتعليم ومهارات يثمنها ويقدرها المجتهدون. إلا أن المشوار رغم كل ما أنجز لا يزال في أوله, فلا يزال بعض الطلبة يواجهون مشكلات عدة هم طرف فيها. الملحقية لا تزال تعاني من تدني عدد المشرفين فيها ومن مستوى بعض المشرفين غير قادرين على التعامل مع الطلبة بمستوى الخدمة المطلوبة من توضيح وإشراف ومساعدة أو بعدم إلمامهم بكل المعلومات التي يفترض أن يمتلكوها, فكيف للطالب أن يرضى وهو قد يواجه مصاعب اتصال مع المشرف؟ المشرفون هم نقاط الالتماس مع الطلبة وليس غيرهم, لهذا فإن دورهم أكثر من أساسي في خلق تجربة رائعة أثناء فترة الابتعاث. الطلبة أنفسهم لا يساعدون أنفسهم أو الملحقية بعمل أشياء أساسية وبسيطة مثل قراءة دليل الطالب الذي أصدرته الملحقية لمساعدتهم على التعرف على ما يريدون أن يعرفوه عن الإجراءات التي يفترض أن يقوموا بها وعن الحياة في بريطانيا وعن أفضل الطرق للاستعداد والتحصيل الأكاديمي. كذلك المشرفين, رغم تحدي توظيفهم وتدريبهم والمحافظة عليهم, لهم دليل إجرائي يشرح المهام والعمل الإشرافي الأكاديمي.
الخطوات التي اتخذت في التأقلم مع التغييرات الكبيرة في الابتعاث للمملكة المتحدة خطوات جيدة جداً. لا يزال هناك تحديات كبيرة في التعامل مع الجامعات وفي خلق تجربة أكثر إيجابية أثناء فترة الابتعاث. مرحلة الانتقال كانت كبيرة ولكنها أساسية في تقديم خدمات أكثر تركيز وفاعلية تساعد وتساهم في استفادة أكبر للمبتعثين وللمملكة وأهدافها التعليمية طويلة المدى.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي