Author

عبد العزيز خوجة: أنا أمانةٌ في أيديكم 2 من 2

|
"لو أنهم جاؤوكَ لانبلجَ الصباح"- عبدالعزيز خوجة، ديوان سفر الرؤيا. وهذا معنى ما قاله الدكتورُ خوجة لي، وهو يتراجع إلى الوراء سانداً ظهراً حملَ الكثيرَ، وكما قلنا فالرجلُ لا يفصح، فهو غير شفاف أبداً للمعاناة، بينما يبعثُ ألوانَ الضوءِ بقوس قزحي كسطحٍ بلوري يعكسُ ولا يشفّ. قال بحالة انفتاحٍ حقيقي: "أنا أمانة في أيديكم". يعني أننا لو جئناه لانبلج الصباح. وإن تركناه أو سايرناه مسايرة الراكب في الزفة فقد ظلمناه وظلمنا أنفسَنا، ولما انبلج الصباحُ، فتبقى سماؤنا الإعلامية ملبّدة بالظلام. "أنا أمانة في أيديكم"، خرجتُ من مكتب الوزير وأنا منشغلٌ بهذه الكلمة، فهي من التواضع غير المعتاد ما يجعلك تذهل، ومن الحكمة العميقة ما يغرس فيك الإعجابَ المنقطع.. ولا تسألني هل هو يعنيها حقا، أم يقولها كما قد تسحبني من لساني من المقالة السابقة فتحاجني: "ألم تقل إن الرجلَ عَطِرَ الكلماتِ جمّ المجاملة؟" نعم، قلت. ولكني كنت هناك ورأيته وهو يخرج آهة الصدق من ثقل حمل الوزارة، وتشابك أولوياتها كدغـْلٍ لا ينفذ إليه النورُ ليفرز شوكه من ثمره، فهو يحتاج فعلا إلى من يزيل العوالقَ والطفيلياتِ واللبلابَ المتجذر بكل مكان.. لم يقل ذلك طبعا، ولكن هذا ما أعتقده أنا. إن عهد الدكتور خوجة مؤهل، إن استمرت حماستـُه، ليؤسس طريقاً جديداً، يبدأه بمنعطفٍ مؤثرٍ من تكوينه الشخصي هو قبل أي شيءٍ ليكون منهاجا مرصوفا لمن يأتي من بعده. وقد قلتُ له: "يا سيدي ليس مطلوبا منك بالضروة الموجبة أن توصل سفينة الإعلام إلى المرسى، فقد يتطلب هذا وقتاً يفوق كل وقتكَ المتاح، ولكن مطلوب منك، وأنت تملك الأدوات المثالية، أن تطور وتجدد في تجهيزات الملاحة بالسفينة لتكون المهمة من بعدك أسهل للوصول للمرفأ المنشود". وكأني زهوتُ للحظةٍ فظننت أنه وافقني، فربما هذا ما كان عازما عليه بالأصل. سأبدأ من شيءٍ مهم. ينقص تخليقاتنا الحكومية الكبرى عنصراً مهماً صغيراً ولكن مؤثرا، وهو حلقات الترابط التي تسمح بانتقال الإجراء وتناسقه وتكامله، فيبدو أن الوزاراتِ والمصالحَ تعمل وكأنها جزرٌ لا ترتبط مع الجهات الأخرى، بينما كان لا بد أن يكون هذا الرباطُ كنسيجٍ عضوي.. وأرى أن وزارة الإعلام والثقافة بجناحيها مرجحّة للقيام بهذا الدور. فلنأخذ على سبيل المثال نقل سمعتنا للخارج كما نريد، فهي في الخارج حتى الآن ليست تلك التي نريد. الإعلامُ والثقافة بدراسةٍ تكامليةٍ وتنسيقية يمكن أن تساعد في تكوين الصورة المبغية لنا في السياسة والاقتصاد والتكافل الاجتماعي والحق الإنساني، وهذا هو كعب أخيل المكشوف لدينا، الذي تنهال إليه سهامُ المنظمات الخارجية. والواقع يصور أن لكل وزارة حملتها وسياستها الخاصة، وهنا يكون العمل مهما بُذل فيه عاجزاً مبتوراً تنقصه بذرة الطاقة والحيوية والإنتاج. وزارة الثقافة والإعلام يجب أن تجهز خططاً استراتيجية ، وتطبيقاتٍ تكتيكية مع وزارة الخارجية بالعملية السياسية المرتبطة بالانطباع العالمي عنا، ومع وزارة الداخلية في فتح قناة مهمة للتواصل مع الناس من الجهتين بتدفقٍ سائغ، ومع وزارة التجارة في تصوير الجو الاستثماري المغري لأصحاب الأعمال، وبالذات مع هيئة الاستثمار، ومع الشركات الكبرى مثل سابك وأرامكو وشركة الكهرباء، وشركات الاتصالات.. إن هذا بات حيوياً وضرورياً واستكشافيا للحاضر، واستشفافا للمستقبل.. إن هذه أدوات عملاقة لأعظم جراحة تجميل لأي وجه بأي أمّة.. إن الوزارة هنا ستكون أنامل الجراح المحترف.. ولكن عندما لا تصل يد الجراح إلى الأدوات فإن العملية مستحيلة الحصول، بله النجاح. وأظن أن الوزيرَ خوجة سيلتفت رئيسيا لتشجيع القراءة الحُرّة في كل طبقات مناطق البلاد بمستويات الطفولة والشباب والكهولة، فالقراءةُ الموسعة والمتنوعة تزيل كُتـَل الجمود في العقول، وتوسع المداركَ، وترقق المشاعر، وتقارب الشعور الإنساني مع مصادره الأولى، فيضعف مع الزمن الانقسامُ الفئوي، والتعصبُ الدموي. خطة مثل هذه قد تبدأ وتتنتج في زمن قصير غير الخطط الكبرى الطويلة الأجل، ومحصلتها تصبّ في أهم أصولنا: المعرفة والأمان. كما، بظني، أنه بفعل ميله الجارف للثقافة سينفض الغبارَ عن المكتبات العامة المتكلـّسة في مدن البلاد، ويعيد لها الدماءَ تفور في عروقها مجدداً ببرامج عصرية، ورافعا لياقتها، ومحفزا لجاذبيتها، ومقيما للبرامج التنافسية في القراءة والإنتاج الذهني والمهرجانات القرائية، وسيعزز المعرفة الرقمية في عالم بات رقميا، وبالذات انطلاقا من المكتبات. كما نأمل أن يراجع سطوة الرقابة على الرأي. وستفورُ في البلاد حيوية تضج في أنحائها للمعرفة والتشوق للقراءةِ، وتتضافر لتقديم مجتمعٍ جديدٍ بفكرٍ جديد، مرتبطٍ بأصالةٍ عريقة.. وهذا طريقنا الأول لبزوغ وجهٍ جميل لنا، وأمام العالم.
إنشرها