Author

قمة العشرين الاقتصادية .. هل يصلح العطار ما أفسده الدهر؟!

|
لا غرابة في أن يودع زعماء قمة العشرين الاقتصادية بعضهم بعضا بابتسامات عريضة مبتهجين بالنتائج التي توصلوا إليها، ولا غرابة في أن يكون أكثرهم إبداء للسرور هو وزير خارجية بريطانيا (جوردون براون) كونه المستضيف والداعي، ومن عادة المضيف أن يكون مرحبا بضيوفه، حتى وإن بدا أن ثمة ما هو موضع خلاف بينه وبين ضيوفه! والحقيقة أن مصدر التفاؤل الذي ساد الأوساط المهتمة والمتابعة للشأن الاقتصادي الدولي، هو مرونة الأعضاء وسرعتهم في الموافقة على التعهد بمبلغ يصل إلى 1100 مليار دولار، للتصدي للتراجع الاقتصادي العالمي، وإن لم تشر نتائج القمة إلى متى وكيف يتم توفير ذلك المبلغ الكبير، ومدى الالتزام الأخلاقي بالوفاء به في المواعيد الملائمة للإفادة منه، وهو ما يبقي السؤال مفتوحا حوله!.. لكن على فرض أن ذلك سيتحقق، فهل كان الإشكال في توفير السيولة، أم في إصلاح الأنظمة؟! وأهم من ذلك وقبله إصلاح الذمم والضمائر؟! وهل كانت السيولة في حالة شح في ظل الوضع السابق للانهيار؟! أم أنها، من تضخمها كانت سببا رئيسا لحصول التضخم، وهدفا للابتزاز والنهب؟ إن ما كان يحدث في العالم هو شيء واحد يسوقه الطمع، ويسيره الجشع، يستهدف الاستيلاء على ما في العالم من سيولة بأساليب احتيالية ملتوية تحت شعار (إذا لم تكن ذئبا أكلتك الذئاب) أو شعار (لك أو لأخيك أو للذئب) بحيث انقلب رؤساء المؤسسات المالية إلى ذئاب تأكل بعضها بعضا..! بمعنى مبسط، فإن ما حصل يتمثل في أن يقوم شخص بإقراض آخر 100 دولار مثلا، بربح 10 في المائة أو أكثر، والمقترض يقرضها لآخر بربح مماثل، إلى أن يدور المبلغ عشرات المرات أو أكثر، وعندما يصل إلى الأخير، الذي يكون متلهفا على السيولة، إما لشراء منزل وإما لإنقاذ منشأة من الانهيار، يكون قد بلغ حده من التضخم بسبب المبالغات التي سبقته، وتسببت في نفخ قيمة العملة وهميا، عندها يكون الأصل، المقترض، لا يساوي قيمته، فيشعر المقترض بالغبن ويعجز عن السداد، فيتم عرض العين المقرضة بالمزاد فلا تباع إلا بنصف قيمتها..! وهكذا يعجز كل من المقترضين عن السداد لمن اقترض منه، ويتسبب، بالتالي، انهيار مشروع واحد في انهيار مئات المشاريع، هذا في الوقت الذي يستولي فيه كل وسيط على حقه من الأرباح مقدما، بالخصم من أصل القرض، سواء كان الوسيط البنك المقرض ذاته، أو كبار موظفيه..! وقد كانت لدينا حالات عبث مماثلة قبل عدة عقود، ما زالت شواهدها قائمة وضحاياها يتجرعون مرارة التجربة، وسببها الطمع والجشع، عندما يأتي شخص ويدعي المتاجرة بالأموال مقابل أرباح تتجاوز المعقول، فيندفع الناس إليه وهم مغمضو عيونهم، فيبدأ بإعطاء هذا من مال ذاك، ويبذخ ويسخى على نفسه ومن حوله، إلى أن تتبخر السيولة، فيتوقف عن المنح وينكشف المستور..! وحالة العالم شبيهة اليوم بذلك، فقد كان هناك استغلال لحاجة الناس للإقراض، وهناك استدراج للناس، بالدعاية المضللة، إلى البنوك، لكي يتم اصطيادهم من قبل المسوقين فيها..! يدفع إلى هذا تسابق محموم من جانب البنوك على تحقيق أرباح تفوق رؤوس أموالها، وإغداق المنح على كبار موظفيها، تصل إلى المليارات، والطائرات، وأوقات الترفيه..! دعونا نعود إلى قمة العشرين، ونقول إنها في الوقت الذي طالبت فيه بإصلاح (نعم إصلاح) صندوق النقد الدولي، أو صندوق (النكد) كما يُسمى في بعض البلدان، نراها قد وافقت على تخصيص 500 مليار دولار، لتعزيز دور الصندوق، قبل تحقق عملية الإصلاح ذاتها، في حين كان يفترض ربط هذا الدعم بتنفيذ برامج الإصلاح المطلوبة، التي تنادي بها معظم الدول النامية منذ زمن، والتي كانت تنحي باللائمة على نصائح الصندوق، فيما وصل إليه وضع الاقتصاد فيها من مواضع وتراجع. ولعل ما يستحق الإشادة، في هذا الخصوص، هو موقف المملكة العربية السعودية من هذا الموضوع، حين أعلنت أنها لن تشارك في ضخ مبالغ في الصندوق وأنها تدرس الخيارات الأفضل لدعمه..! ولنخصص الحيز المتبقي لهذا المقال، لموضوع الإصلاحات الرقابية التي حازت على الأغلبية من أصوات الأعضاء، من بين الأولويات المطروحة، يتمثل ذلك في الالتزام بتوسيع الرقابة والإشراف على جميع المؤسسات والأدوات، والأسواق المالية، التي تلعب دورا مهما، بما في ذلك وكالات تصنيف الجدارة الائتمانية، وكأن العالم يستيقظ للتو على أهمية هذه الرقابة، وأن تعزيز أساليب الرقابة، ولا سيما النوع الخارجي منها، أي المحايد، هو أكثر ما يحتاج إليه العالم اليوم، وهو ما يعزى إلى ضعفه أو عدم وجوده، ما أصاب كبرى الشركات العالمية من إفلاس، ولو كان هناك نظام رقابي قوي، ومهنيون ملتزمون بمبادئ وأخلاقيات المهنة، فلن يكون من السهل اختفاء شركات عملاقة من السوق فجأة، كالذي حدث، دون ظهور مؤشرات على الخلل الحاصل تجعل من الممكن تداركها بالإصلاح، ولو أن المراقبين الخارجيين لم يكتفوا بالجلوس في مكاتبهم منتظرين الإدارات التنفيذية لتعد لهم البيانات المالية عن أوضاع الشركات، لكي يقوموا بالمصادقة عليها، دون مناقشة أو فحص ولو كانت هناك زيارات ميدانية متكررة لقاعدة المنشأة المالية من قبل المراقب الخارجي، كتلك التي يقدمها عندما يتقدم بعرضه، لو حدث ذلك لما حصلت الانهيارات بصورة مفاجئة..! ولكن الغريب أن العالم لم يسمع، ضمن نتائج القمة، أو برامج الإصلاح التي تبنتها بعض الدول، أي إشارة إلى مساءلة المراقبين الخارجيين، أو تحميلهم جزءا من المسؤولية إن لم تكن المسؤولية كلها، عن دورهم فيما حدث, أو على الأقل تعزيز أنظمة الرقابة المستقلة! والله من وراء القصد.
إنشرها