الرشوة: أكبر معطل وعائق للتنمية!..
تنتشر الرشوة في الأوساط الإدارية في الدول النامية بشكل ظاهر، حتى أصبحت صفة ملازمة للعملية الإدارية فيها، إذ قلما ينجز عمل دون دفع مقابل، وتتعطل بهذا مصالح الناس، وبالذات الفقراء منهم، الذين لا يستطيعون الدفع، ويصبح هم الموظفين المنوط بهم إنجاز مصالح الناس عقد اللقاءات السرية، والاتصالات والمقابلات المشبوهة، وتتكون عصابات من السماسرة والوسطاء، يمثلون أداة الوصل والاتصال بين الموظفين وأصحاب المصالح دافعي الرشوة!....
ولا يقتصر أخذ الرشوة على صغار الموظفين، بل يشمل كبار الموظفين، ويصل ذلك إلى أعلى السلم الوظيفي في بعض الإدارات، ويشكل الموظفون المرتشون ورؤساؤهم سلسلة من الحلقات المترابطة والمتعاونة على تعطيل الأعمال، من أجل جني الأموال بطرق غير مشروعة.
وتنتشر الرشوة إما بسبب الفقر، الذي يدفع الموظف إلى البحث عن مصدر آخر لدخله، غير راتبه الذي لا يكاد يكفي لاحتياجاته، واحتياجات عائلته الضرورية، وإما بسبب الفساد الإداري الذي يطول مختلف المستويات، حيث يتسابق الموظفون في الظفر بأكبر قدر ممكن من الفوائد المادية، في صورة عمولات عن صفقات التعاقد على الأعمال الحكومية، مع شركات معينة يتم تحديدها، والاتفاق معها مسبقا على نوع العمولات وحجمها، وحتى طريقة دفعها، والمكان الذي تدفع فيه، وغالبا ما يتم الترتيب لذلك بشكل سري من قبل وسطاء مهرة، يوثق بهم من قبل الموظفين أنفسهم.
وقد تكون تلك الفوائد المادية في صورة مشاركات في تكوين شركات يشترك فيها المديرون، أو زوجاتهم, أو أبناؤهم، وذلك باقتراح وإلحاح من قبل المستفيدين، لكي تكون هذه المشاركات بمثابة الضمان لاستمرار التعامل مع تلك الشركات دون غيرها في الصفقات الكبيرة، وغالبا ما تنشأ شبكات مترابطة من تلك المشاركات تأخذ صفة المبادلات والتمازج، والانصهار في المصالح، وضمان التكتم، وعدم إفشاء الأسرار!...
ونلحظ بروز مثل هذه الظواهر، بشكل أكبر، في البلدان النامية الغنية بمواردها المادية, المتخلفة إداريا وصناعيا وتقنيا، وتترعرع الرشوة وتنمو جذورها وفروعها بشكل أكثر في المجتمعات التي يضعف فيها الوازع الديني, ويهبط فيها مستوى التمسك بالقيم والتقاليد، وينسلخ فيها المجتمع من جذور الحضارة والتاريخ والأصول، ويسيطر فيها العامل المادي على العامل الديني، ويتسابق الموظفون إلى استغلال مراكزهم ونفوذهم، ويتضاءل الشعور بالانتماء للعمل، والإخلاص للوطن، وتسود أخلاقيات دنيئة، مثل الغش، والكذب، والنفاق، والتملق..
وتعد الرشوة من هذا المنظور، أكبر عائق ومعطل للتنمية، إذ إنه علاوة على ذهاب جزء من الأموال المخصصة للتنمية، نتيجة الاختلاس والتواطؤ مع منفذي مشروعات التنمية، على التلاعب بالمواصفات، والغش في المواد، بغية توفير الأموال لكي تتقاسمها الأطراف المعنية، علاوة على ذلك، فإن هم الموظف ينصرف عن متابعة الأعمال المسؤول عنها، إلى السعي وراء مصالحه المادية، والاهتمام بتنميتها، بل وافتعال الأسباب لتعطيل الأعمال والمشروعات، وإيجاد العوائق لإجبار المتعاملين مع الحكومة على الدفع!..، من ثم يكون من نتائج ذلك كله بروز مشروعات متهالكة، سرعان ما تظهر فيها العيوب والأخطاء، وربما الانهيارات، وتتعطل الاستفادة منها، وتتوقف عن العمل لكي تبدأ فيها أعمال الترميم والإصلاح والبناء من جديد، وتكون الخسارة مضاعفة على الاقتصاد الوطني، إن كان في صورة تبديد المال العام، وبزيادة تكاليف هذه المشروعات عما كان مقرراً لها، أو كان ذلك في صورة عدم استفادة المواطنين منها، وتحملهم أعباء الانتظار، والخسارة المادية والمعنوية بسبب فقد الوقت، وتعطيل أعمالهم، ويُرى هذا ماثلاً في أعمال البنية التحتية، من طرق وأنفاق وكبار، ومبان إدارية ومدرسية إلخ..، في بعض الدول النامية.
ومشكلة الرشوة الأساسية تكمن في صعوبة كشفها، وإثباتها لاتفاق الأطراف المعنية وتراضيهم عليها، والاحتياطات التي يضعونها للحيلولة دون تسرب أي معلومات عنها، ومن النادر أن تنكشف الرشوة إلا في حالة واحدة هي محاولة إرغام المواطن على الدفع، وهو يرى حقه واضحاً في الحصول على الخدمة التي يطلبها، ولا يتجاوب ضميره معه في الدفع، فيعمد إلى إطلاع الجهة المختصة بمكافحة الرشوة لاتخاذ الإجراءات اللازمة، لكن تبقى مثل هذه الحالات نادرة، إما بسبب ندرة الضمائر الحية، أو تخوف المواطن من وقوف الموظفين ضده في مصالحه الأخرى، بخاصة إذا كان ممن يحتاج إلى خدمات الإدارة المعنية، مثل المقاولين!..
وهكذا، فإن الرشوة لا يحد منها أو يقلصها، على الأقل، إلا التعاون والتكاتف من قبل سائر الجهات المعنية وأولها المواطن، ثم الجهات الرقابية وأسلوب التربية، والمثقفون، وخطباء المساجد، على تعميق الشعور بالولاء، وحب الوطن، ومخافة الله، ومحاسبة الضمير، وتشجيع المواطن على البوح بما يتعرض له من ضغوط، مع ضمان حمايته.
كما أن مما يقلل من توافر أسباب الرشوة تطوير البيئة الإدارية، واعتماد الشفافية والوضوح في الإجراءات، واستخدام وسائل التقنية الحديثة في تقديم بعض الخدمات عن بعد..، وفوق ذلك كله، وقبله، إعمال مبادئ حماية الأخلاق، وتنزيه المهنة، والمحاسبة، والثواب والعقاب، وتقوية أجهزة الرقابة على المال العام، وإنشاء التنظيمات الكفيلة بحماية المال العام، ومكافحة الفساد، وحماية النزاهة.
والله من وراء القصد.