Author

التوصيف القانوني للجنة تسوية المنازعات المصرفية

|
لقد أثير الجدل خلال الفترة الماضية حول التوصيف القانوني للجنة تسوية المنازعات المصرفية، وحقيقة عملها، وما إذا كانت هيئة قضائية أو شبه قضائية تُمارس عملاً قضائياً ملزماً للخصوم وفق مبدأ استقلالية القضاء، باعتبارها جهة منشأة وفقاً للنظام لتفصل في المنازعات التي تكون البنوك طرفاً فيها، أم أنها مجرد جهة إدارية منشأة لتتولى تسوية المنازعات المصرفية، ومن ثم فإنها لا تُصدر أحكاماً قضائية مُلزمة للخصوم، ولا تتمتع قراراتها بالفاعلية التي تتصف بها الأحكام القضائية ذاتها. ومن المعلوم أن هذه اللجنة قد أنشئت بموجب الأمر السامي الكريم رقم 8/729 وتاريخ 10/7/1407هـ ، لتختص بنظر المنازعات المصرفية التي يكون أحد البنوك العاملة في المملكة طرفاً فيها، وقد حدد الأمر السامي البرقي رقم 4/ب/ 110وتاريخ 2/1/1409هـ المراد بالمنازعات المصرفية التي تنظرها اللجنة وفقاً للعقود والاتفاقيات الموقعة بين الطرفين. ويذهب رأي تتزعمه مؤسسة النقد العربي السعودي إلى القول إن هذه اللجنة هي لجنة قضائية تُمارس اختصاصاً قضائياً، مستنداً في ذلك إلى عدة حجج، أهمها: الحجة الأولى: أن هذه اللجنة تختص بتسوية المنازعات المصرفية طبقاً للأمرين الساميين المشار إليهما، وأوامر سامية لاحقة، منها الأمر السامي رقم 4/ب/ 21134وتاريخ 5/6/1423هـ، والأمر السامي رقم 4/ب/ 36405 وتاريخ 1424/7/26هـ، والأمر السامي رقم 59832/ب وتاريخ 29/12/1425هـ؛ والحجة الثانية: أن هناك العديد من الأحكام والقرارات القضائية التي صدرت من المحاكم العامة، ومن ديوان المظالم، ومن مكاتب الفصل في منازعات الأوراق التجارية، وقضت بعدم اختصاص تلك الجهات بنظر المنازعات المصرفية أو بعدم سماعها، وأن نظرها من اختصاص لجنة تسوية المنازعات المصرفية؛ والحجة الثالثة: أن هذه اللجنة لا تنظر في القضايا إلا بعد موافقة المقام السامي بموجب إحالة خاصة بذلك، ما يعني أن إحالة القضية للجنة من قبل المقام السامي تجعل لها اختصاصاً قاصرا دون غيرها بتسوية المنازعة. ويضيف أنصار هذا الاتجاه حجة رابعة، يردون بها على أصحاب الرأي المعارض لاعتبار تلك اللجنة هيئة قضائية، فيقولون ـ رداً على هؤلاء الذين يعتبرونها مجرد لجنة "تسوية"، وليست لجنة "فصل وإلزام" ـ أنه لا فرق بين تسوية المنازعات والفصل فيها، إذ إن النتيجة في كلاهما واحدة، وهي إنهاء النزاع، ثم يُضيفون إلى ذلك أنه لا يجوز أن يكون المراد بكونها لجنة تسوية للمنازعات المصرفية هو أن سلطتها مقتصرة على مجرد محاولة التوفيق بين الخصوم دون إلزام لأحد الطرفين بما تتوصل إليه اللجنة، وأن قراراتها متوقفة على رضا الخصوم، فهذا القول يتعارض مع ما ورد في المادة السابعة من الأمر السامي الكريم الصادر بإنشائها والمشار إليه أعلاه، والتي تنص على أنه: "عندما تُقرر اللجنة المشار إليها في المادة الثانية عدم توصلها إلى تسوية مرضية للطرفين أن يُحال النزاع إلى المحكمة المختصة للبت فيه"؛ إذ يتضح جلياً من هذا النص أن عدم التوصل إلى تسوية مرضية هو قرار عائد إلى اللجنة ذاتها، فمتى قررت تسوية النزاع فإن الأمر تمتنع إحالته إلى المحكمة المختصة، حيث إن قرار التوصل إلى تسوية مرضية ليس أمراً راجعاً إلى الخصوم، والدليل على ذلك أن الأمر السامي المشار إليه قد حدد الإجراءات النظامية التي تمنح اللجنة الصلاحيات اللازمة لإجبار المدين على تنفيذ قراراتها، وهو ما يعني بطبيعة الحال أن قرارات اللجنة لن يرضى بها بعض الخصوم، ومن ثم يجوز للجنة إلزامهم بما تتوصل إليه. وهذا ما انتهى إليه حكم صادر عن ديوان المظالم السعودي المدقق رقم 103/د/ت ج/ لعام 1426هـ في دعوى رفعت أمام الديوان ضد قرار صادر من اللجنة بحجة عدم رضا الشاكي بالقرار. ولم يكتف أنصار هذا الرأي بما أوردوه من حجج، بل استندوا إلى قرار صدر من المجلس الأعلى للقضاء رقم 3/323 وتاريخ 4/4/1424هـ في قضية تتعلق بمنازعة مصرفية رفعت أمام لجنة تسوية المنازعات المصرفية، فأصدرت فيها قراراً، ثم رفع أحد الخصوم دعوى لاحقة أمام المحكمة العامة، فقضت بعدم اختصاصها بنظرها والفصل فيها لسبق الحكم في القضية من قبل لجنة تسوية المنازعات المصرفية، فتظلم المحكوم ضده من الحكم بعدم الاختصاص لدى المجلس الأعلى للقضاء الذي قرر تأييد الحكم الصادر من المحكمة العامة بصرف النظر عن أن هذه دعوى لسبق الحكم في القضية من قبل لجنة تسوية المنازعات المصرفية. كما استندوا إلى إحدى القضايا التي رفعها أحد المستثمرين ضد أحد البنوك إلى اللجنة، التي توصلت إلى تسوية رفضها المدعي "عميل البنك"، فأقام محامي هذا المستثمر دعوى أمام ديوان المظالم ضد مؤسسة النقد العربي السعودي طلب فيها إلزام اللجنة بإحالة الدعوى إلى إحدى الدوائر التجارية في ديوان المظالم بحكم الاختصاص. فصدر توجيه من المقام السامي الكريم رقم 4/ب/ 35016 وتاريخ 19/7/1424هـ بخصوص هذا النزاع متضمناً "إفهام المذكور أن عليه متابعة قضيته لدى لجنة تسوية المنازعات المصرفية، ومتى قررت اللجنة عدم اختصاصها بنظر النزاع فيُمكن التقدم إلى ديوان المظالم". وبذلك أكد الأمر السامي الكريم على أن تحديد الاختصاص بنظر النزاع قرار تختص به اللجنة ذاتها، وبناء عليه قررت اللجنة اختصاصها بنظر النزاع، وأصدرت قرارها في الموضوع في حينه. ويخلص أنصار هذا الرأي إلى القول إن تصدي اللجنة للنظر في المنازعات المصرفية والفصل فيها بقرارات قضائية، ليس تعدياً منها على ما هو خارج عن اختصاصها، بل هو مُمارسة لاختصاصها المكلفة به طبقاً للأمر السامي الكريم الصادر بإنشائها، والأوامر السامية اللاحقة، فقرارات اللجنة تنهي النزاع المصرفي، وتكون مُلزمة لطرفي النزاع، وقابلة للتنفيذ بواسطة سلطات التنفيذ المختصة. كما أن هذه اللجنة، أسوة بغيرها من الجهات القضائية الأخرى، تُعد رافداً من روافد إقامة العدل، وكفالة الحقوق بالتزامها بتسوية النزاعات المعروضة عليها على أسس من العدل والنزاهة والحياد. ونتابع في المقال اللاحق ـ إن شاء الله ـ تعالى الحجج التي أدلى بها أنصار الرأي المعارض لاعتبار اللجنة جهة قضائية أو شبه قضائية، وما نراه في ذلك.
إنشرها