Author

من سفوح أفغانستان إلى أسواق المال اللندنية

|
منذ نعومة أظفاري ولغز الأوراق النقدية تستهويني تساؤلاته وتداعبني أسرار سحره الغامض، ولكن الهوى القديم بترديد صيحات تكبيرات الفتح في حيفا ويافا، وتسبيحات صلوات الفجر في المسجد الأقصى، كانت قد غلبت عشق حل لغز هذه الأوراق، فانخرطت في سلاح المدفعية والمشاة عقدا ونصف العقد من الزمن شهدت فيها الموت والحياة وتميز لي خلالها الفرق بين الحكمة والجبن، وبين الشجاعة والتهور، وبين التضحية والانتحار، وأدركت خلال تلك السنين التي كانت مليئة بالأحداث نسبيا، أن العصر الذي نعيش أيامه قد تجاوز انتصارات الشجاعة وقصص البطولات إلى انتصارات العلم والمعرفة والاقتصاد. وتبين لي خلال تلك السنين أن تعقيدات هذا العصر قد وصلت حدا من الصعوبة جعلت من الحكماء فضلا عمن دونهم من الناس ينظرون إلى نتائج الحوادث ويتعاملون معها دون النظر في مسبباتها، وهم في ذلك أشبه بنظر الإنسان إلى نتائج شروق الشمس وغروبها دون إدراك مسبباته رغم البون الشاسع بين الأمرين. فالكون يُعقل تأمله دون إدراكه لأنه من أسرار خلق الله وأما النظام الحديث لهذا العصر فيمكن تأمله وإدراكه ومن ثم التحكم فيه لأنه من صنع الإنسان. والنظرة البدائية إلى تعقيدات العالم الحديث هي التي جعلت من بعض أفراد أمتي مركبا سهلا لكل من يُحسن التلاعب بعاطفتهم الدينية لتحقيق نفوذ ذاتي أو ثروة خاصة. وهذه النظرة السطحية البسيطة إلى تعقيدات العالم الحديث هي التي جعلت أمتي تتخلف عن ركب الانتصارات لعقود من الزمن تتلقى فيه الهزيمة بعد الهزيمة، سياسيا وعسكريا وثقافيا واقتصاديا، والأخير عند التأمل يستطيع العارف الناظر إدراك أن الهزيمة في الاقتصاد هي المسبب للهزائم السياسية والعسكرية والثقافية (والهزيمة الثقافية المقصودة هنا هي تقليد الغير فيما لا نفع فيه). تُخدر أمتنا الإسلامية لكي تخلد إلى الكسل والخمول بأساطير انتصارات الوهم الكاذبة. سواء كانت روايات ساذجة يرويها من كان يُصنف ويُعد بأنه شيخ وفقيه فقه الواقع أيام التسعينيات في فتاوى الجواز أو عدمه لأكل لحم أسماك دجلة والفرات التي سمنت من أكل لحم جثث الأمريكان التي قذفها الجيش الأمريكي في أنهر العراق بعد أن أعجزه وأرهقه دفنهم، إلى الأساطير المحبوكة التي تحبكها الصيرفة غير التقليدية (صيرفة الحيل) والاستخفاف بالعقول في قلبها لحقائق الأمور وادعاء النصر في حرب اقتصادية عالمية كنا ولا نزال الخاسر الأكبر فيها. في مقتبل الشباب، عاصرت كغيري من هو في سني، موضة وطفرة الجهاد الأفغاني التي ضج الإعلام فيها بآيات الرحمن في جهاد الأفغان من منابر الخطب والصحف والمؤتمرات وصولا إلى أفلام هوليود. وقد كان طوفانا إعلاميا عالميا لا يقف أمامه إلا خاسر. وهناك وفي سفوح أفغانستان سُفكت دماء شبابنا واستنزفت أموال شيبنا وهُزمت الشيوعية وانتصرت أمريكا في آخر حروبها الباردة مع الروس وانغمس الأفغان يقتل بعضهم بعضا في أحد أقذر الحروب الأهلية التي شهدها التاريخ. في تلك الحقبة خسر من قد صدقت نيته فحاول مقاومة الطوفان الإعلامي العالمي وربح من ركب الموجة وزج بأبنائنا وأموالنا إلى الهلاك فداء لشهرة نالها ومجدا حققه وأصبح وهو يُأخذ عن قوله ويرد بعد أن تبرأ من قوله وأنكر فعله بالأمس القريب. ومن بين هؤلاء وهؤلاء قوم فضلاء صمتوا إما لجهلهم حقائق الجهاد الأفغاني وإما لخوفهم من مواجهة العامة وهو الأغلب، وهم بذلك يتأولون أحاديث الفتن في تجنب الناس إلى الشعاب ورؤوس الجبال، فلا والله لا تبرأ ذمتهم والله أعلم بهم ولا أتألى عليه جل وعلا. وخلت أيام الجهاد الأفغاني ومآسيه السابقة واللاحقة ولكل نفس ما كسبت وعليها ما اكتسبت، وجاءت طفرة النفط الحالية فازدهرت أسواق لندن المالية بعوائد النفط فسال لعاب الغرب فأرسل الطوفان الإعلامي العالمي يلهث كما لهث من قبل في خبث أو بلاهة أو عدم مبالاة، فهذا ما يطلبه المستمعون، بعد أن انكشفت طرق الغرب التقليدية لاختلاس ثروات العالم فنسج أساطير خضوع عروش روما ولندن لصيرفة الحيل والخرط والخريط يسوقها بالترغيب والترهيب من فاته ركب الشهرة والغنى في التسعينيات ويأمل أن يدرك الظفر بالشهرة والغنى عن طريق إهلاك اقتصاديات المسلمين في أسواق لندن بحيل وأسماء مستعارة لا ترقى في حقيقتها حتى للتيوس المحللة. راية الجهاد راية مرفوعة إلى يوم القيامة ولا يضرها من تبرأوا منها بعد أن ملأوا الدنيا زعيقا وصياحا بحي على الجهاد حي على الفلاح، وعليه فالجهاد الأفغاني أصله حق وتطبيقه خاطئ، وأما صيرفة الحيل فأصلها خطأ بتحريم ما لم يحرمه الله ورسوله وتطبيقها بطلان وفسق إذ هو اعتقاد بالتحريم ومن ثم تحليله كأصحاب السبت بحيل صورية ليس لها أي حقيقة بل إن حيلة أصحاب السبت وجمل الشحوم أقرب حقيقة من صيرفة الحيل. فلسف شخص ظريف حكمة امتناعه عن الزواج لخوفه من إنجاب ذرية التي إن سلمت من القتل أو الموت لم تسلم من المرض. هذه ليست حماقة، بل فلسفة قد كثرت هذه الأيام مع الأزمة المالية التي نعيشها تشدق بها كثير ممن ادعوا الحكمة والنظرة الثاقبة. فقد طفحت وسائل الإعلام بتنظير من يزعمون أنهم حكماء القوم ومفكروهم لهذه الأزمة أنها نتاج للنظام الاقتصادي الحديث الفاسد القائم على التمويل ويفخرون أن عالمنا العربي قد سلم منها لأن ثقافة التمويل ليست من مفرداته. وهذا التنظير هو صحيح من حيث الواقع ولكنه خطأ من حيث النتيجة. الغرب بنى اقتصاداته بتسهيل التمويلات بعد أن انفصل ملاك الثروة عن المنتجين وهو، أي اقتصاد الغرب، يمر بفترة مرض والمرض لازم من لوازم الحياة وانتفاؤه انتفاء للحياة نفسها. تأوه الغرب من نزلة البرد القاسية فحسد الشرق على مقابره الذي قد دُفن فيها تحت وطأة ركام الديون الاستهلاكية المحللة بشعار "ذبح على الطريقة الإسلامية". أشهر معدودة وتشفى اقتصاديات القوم وتعود الحياة لها بأقوى مما كانت عليه بعودة التمويلات ونحن ما زلنا ندرس كيف نُعقد نظام الرهن والتمويل وكيف نضع لجانا يُدفع لها الغالي والنفيس لتحلل الحرام وتحرم الحلال لكي نظل أمواتا فلا نصاب بأي مرض مستقبلا، فالحمد لله على كل حال. ولنقم لله مثنى وفرادى ثم لنتفكر! هل الوضع الاقتصادي لدبي الآن خير لها أم وضعها قبل 25 عاما؟ (الوضع الاقتصادي ليس الثقافي ولا الاجتماعي ولا السياسي). وهي أي دبي قد قامت على التمويلات الأجنبية فما بالك بمن يضع العراقيل للتمويلات الوطنية باسم الدين، والدين من ذلك براء. تذكرني هذه الأزمة بقصة تروى عن قوم غزوا جيرانهم وعاد فريق منهم إلى ديارهم فتلقاهم البُسطاء والعجائز والقُصر من قومهم يسألونهم الخبر، فحدثوهم بأساطير البطولات والملاحم. فسألتهم عجوز كم ذبحتم منهم فأجابوها خمسة بتعظيم الصوت وتضخيمه فسألتهم العجوز مرة أخرى وكم ذبحوا منكم فأجابوها خميسمية فقط بتصغير الرقم وتخفيض الصوت، فكبر القوم وهللوا وأكرموا قادتهم واحتفلوا بالنصر المؤزر. فاصلة خليلي إن لا تبكياني ألتمس خليلا إذا أنزفت دمعا بكى ليا.
إنشرها