default Author

عندما تصبح الحكومة "راعية بقر"!

|
هل يمكن أن تصبح الحكومة "راعية بقر"؟ نعم، إذا كانت تؤمن بضرورة التدخل الحكومي وتسعير المنتجات والخدمات، بدليل القصة أدناه. ولكن قبل الانتقال إلى القصة لابد من التذكير بنتائج القصص الماضية وأهمها أنه لو كان هناك خير في التسعير الحكومي للسلع والخدمات، بأي طريقة كانت، لأمر به الإسلام، مع التركيز هنا على كلمة "أمر". إن التدخل الحكومي في الأسواق، خاصة في مجال التسعير، من أكبر الآفات الاقتصادية. وقبل أن يستنتج البعض خطأً أنني أدافع عن الرأسمالية، أذكرهم بأن حرية الأسواق شيء، والرأسمالية شيء آخر. حرية الأسواق مبدأ إسلامي أصيل وُضعتْ أسسه منذ نشأة الدول الإسلامية في المدينة المنورة. وعند الحديث عن تدخل الحكومة في التسعير، فإن هذا المفهوم لا ينطبق فقط على قيام الحكومة بإعلان سعر محدد للسلعة أو الخدمة، وإنما ينطبق على أي سياسة تؤثر في السعر، بما في ذلك الإعانات. فخطر هذه الإعانات على الاقتصاد لا يقل عن خطر التسعير المباشر. ولنتذكر أن هناك آلاف القصص من شتى أنحاء العالم التي توضح خطر دعم السلع والخدمات، كما أن هناك عشرات القصص في السعودية ودول الخليج الأخرى التي تؤيد الفكرة نفسها. وكيف لي أن أنسى زميلي الذي تظهر تابعيته أنه أكبر من عمره الحقيقي بعامين، لأن أباه سجله قبل أن يولد بعامين حتى يكسب المزيد من الإعانات التي كانت تقدمها الحكومة السعودية للمواطنين في الهجر والقرى المختلفة. إذا كان هذا ما حصل مع الأولاد، فما بالك في أعداد الغنم والإبل وأشجار النخيل؟ وما بالك بالمشاكل الكبيرة التي نتجت عن إعانات القمح في المملكة، خاصة في عامي 1986 و1987؟ وتعد فضيحة الأجبان الأمريكية من أهم الأمثلة على فشل نظم الإعانات وإبراز خطورتها على الاقتصاد. حصلت هذه الفضيحة في عهد الرئيس رونالد ريجان في الثمانينيات. فقد حاول ريجان تطبيق أفكار الحزب الجمهوري التي تقتضي تحديد دور الحكومة وتحجيمها عن طريق تخفيض الإنفاق الحكومي. لذلك كان أول ما قام به عند تسلمه السلطة في أول الثمانينيات هو إنشاء لجان مهمتها تحديد البرامج الحكومية التي يمكن إلغاؤها أو تحجيمها بهدف تخفيض الإنفاق الحكومي. ولما انتهت هذه اللجان من عملها أوصت بإلغاء (أو تحجيم) إعانات الحليب والأجبان للمزارعين لأنها تكلف الحكومة عشرات المليارات من الدولارات. ولكن ريجان رفض هذه التوصية، لأن أغلب المزارعين في الولايات المتحدة ينتمون إلى الحزب الجمهوري ويصوتون له في الانتخابات. وطلب ريجان من مساعديه إيجاد طرق أخرى لتخفيض العبء على الحكومة. وبما أن نظام الإعانات الأمريكي يجبر الحكومة الفيدرالية على شراء فائض الأجبان والحليب المجفف والزبدة من الأسواق للحفاظ على الأسعار فوق الحد الذي حددته الحكومة، فإن الحكومة قامت بشراء الفائض وخزنته في مخازن ضخمة في أماكن متفرقة من الولايات المتحدة. ومع الزمن تضخمت هذه المخازن وزادت تكاليف إدارتها حتى وصلت إلى مئات الملايين من الدولارات سنويا، خاصة أن الحفاظ على الجبن والزبدة يتطلب حفظها ضمن ثلاجات ضخمة تستهلك كميات كبيرة من الكهرباء. على إثر ذلك اقترح مستشارو الرئيس ريجان تخفيض تكاليف التخزين وتوفير مئات الملايين من الدولارات عن طريق التخلص من المخزون من جهة، وإجبار المزارعين على عدم زيادة الإنتاج من جهة أخرى. قررت وزارة الزراعة، التي تشرف على مخزون الأجبان والحليب المجفف والزبدة، التخلص من المخزون الضخم عن طريق توزيعه مجاناً على المواطنين في المدن الكبرى في الولايات المتحدة. ونتج عن ذلك انخفاض حاد في أسعار هذه المواد، حيث هبطت الأسعار إلى مستويات أقل بكثير من السعر الذي حددته الحكومة، الأمر الذي اضطر الحكومة، بحكم قانون الإعانات، إلى إعادة شراء هذه المواد من الأسواق! نعم لقد قامت الحكومة بشراء المواد التي وزعتها مجاناً قبل أيام! قررت الوزارة تخفيض تكاليف المخزون عن طريق إعطاء المزارعين كمية الإعانات نفسها، مقابل قيام المزارعين بتخفيض إنتاج الحليب. المشكلة أن أغلب صانعي القرار نشأوا في المدن، ومعلوماتهم عن المزارع والبقر ضعيفة. لذلك غضبوا عندما قدموا الإعانات نفسها، ولكن المزارعين استمروا في حلب البقر، واستمرت الحكومة في شراء الفائض. على إثر ذلك قررت حكومة الرئيس ريجان اتخاذ إجراءات حاسمة لإجبار المزارعين على تخفيض إنتاج الحليب وذلك عن طريق قيام الحكومة الفيدرالية بافتتاح مزارع أبقار في ولاية "مونتانا" وشراء الأبقار من المزارعين "الذين يصرّون على حلب أبقارهم" وتوظيف مئات العمال لإدارة هذه المزارع. وهكذا أصبحت الحكومة الفيدرالية الأمريكية ولأول مرة في التاريخ "راعية بقر"! لقد ظن مشرّعو هذا القانون أن البقرة مثل الآلة: تضغط على زر فيتوقف إنتاجها! لذلك قرروا أن يقوموا هم بالضغط على هذا "الزر" لأن المزارعين "لن يقوموا بذلك لجني المزيد من الأرباح" حسب زعم هؤلاء السياسيين. وقامت الحكومة الفيدرالية بإرسال لجان إلى الولايات المختلفة لشراء الأبقار وشحنها إلى مونتانا. كل هذا بهدف "تخفيض إنتاج الحليب" و"الحفاظ على الأسعار فوق المستوى الذي حددته الحكومة"! وبعد شهور اكتشفت الحكومة أنها تقوم بشراء نفس الأبقار مراراً وتكراراً. فقد قام المشرفون على مزارع الأبقار، وبالتعاون مع عمالهم، بشحن الأبقار التي اشترتها الحكومة إلى الولايات الأخرى ثم اشتروها عدة مرات وجنوا من ذلك أرباحاً طائلة. كما قاموا بشحن العجول والأبقار التي وُلدَتْ في مزارع الحكومة إلى خارج المزارع وباعوها للحكومة. وبدأت دوامة جديدة بدأت باعتقال المشبوهين ومحاكمتهم ومصادرة أموالهم ثم إيداعهم السجون، ثم قيام المتهمين باستئناف الحكم. وهكذا خسر دافع الضرائب الأمريكي أموالاً إضافية قدرت بعشرات الملايين من الدولارات لتطبيق قانون "التسعير"! قد يظن البعض أن المشكلة انتهت بسجن المتورطين في عملية إعادة بيع الأبقار، ولكن مهلا، القصة لم تنته بعد. أصبحت مشكلة فائض الجبن معروفة عالمياً في وقت بدأ فيه الاتحاد السوفياتي يعاني نقصا شديدا في المواد الغذائية. عندما تقدم الاتحاد السوفياتي بعرض إلى الرئيس ريجان لشراء فائض الأجبان الأمريكي، رفض ريجان هذا العرض بحجة أن إطعام الشيوعيين هو دعم لهم وأصر على أنه "لن يطعم الشيوعيين" لأنه "العدو الأول للشيوعية". وظلت مشكلة الجبن والأبقار تتفاقم في الشهور التالية حتى قامت الحكومة النيوزيلندية بتقديم عرض للرئيس ريجان يقضي بأن تتكفل الحكومة النيوزيلندية بدفع تكاليف نقل فائض الجبن خارج الولايات المتحدة على شرط أن يكون الجبن "هدية" للحكومة النيوزيلندية. ولما وافقت حكومة ريجان على المشروع قامت الحكومة النيوزيلندية بشحن الجبن خارج الولايات المتحدة ثم باعته للاتحاد السوفياتي! وهكذا خسرت الحكومة الأمريكية ملايين الدولارات إضافة إلى الملايين السابقة، كل هذا بسبب تدخل الحكومة في التسعير! ترى كم من القصص المشابهة تحدث في بلادنا؟
إنشرها